الأربعاء, أبريل 23, 2025
18 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

إصدارات أسبوعية

د. بشير عصمت ـ حين يقتلنا الموتى: لبنان والعالم بين الأيديولوجيا والحرية والثأر

الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي

  • فريدريك نيتشه: إن الأموات سيمسكون بنا من رقابنا إذا لم نملك الشجاعة لتركهم يرحلون”.
  • مسعود يونس: “هؤلاء الموتى الذين يقتلوننا”.
  • ألبر كامو: لا يُصبح الإنسان حرًا حتى يتحرر من عبودية الموتى“.

مرّ الكثير من الوقت قبل أن نجرؤ على طرح هذا السؤال: لماذا يتحول الموتى إلى سلطة فوق حياتنا؟ لماذا لا نتركهم يرقدون بسلام، بل نستدعيهم لنخوض حروبهم، لنكرر صراعاتهم، لنعيش أسرهم؟ لا شك أن العواطف لها فعلها الإيجابي في التاريخ، كما أن لحزن الفراق أثره العميق في وجدان الأفراد والجماعات. لكن هناك فرقًا بين أن يكون الحنين إلى الماضي دافعًا للفهم والتطور، وبين أن يكون سجنًا يحاصرنا داخل دائرة لا نهائية من التكرار والانتقام.

إن الموت واحد، لكن أثره ليس واحدًا. فالموت هو المصير الحتمي للجميع: الغني والفقير، القائد والجندي، الرجل والمرأة، الطفل والعجوز. لكن ردود الفعل عليه ليست متساوية. هناك من يرحلون دون أن يتركوا أثرًا، وهناك من يتحول موتهم إلى بداية لحالة جديدة، إلى شعار يُرفع، إلى مبرر لصراعات ممتدة لعقود، وربما قرون.

في الأسابيع الأخيرة، شهدنا مراسم إحياء ذكرى وتشييع شخصيات سياسية وعسكرية بارزة، قُتلت غدرًا، وسط مشاركة فئوية المعالم. لم يكن هذا التفصيل مستجدًا أو مصادفة، بل مؤشرًا على أن الزمن يفرض منطقه، وأن الإجتماع حول بعض الشخصيات صار أيديولوجيا أسطورية. مما يفتح النقاش حول فكرة موت “أنصاف الآلهة”، أولئك الذين جرى تخليدهم كأنهم أكبر من الحياة، كأن غيابهم يجب أن يُترجم إلى المزيد من الالتزام بهم، لا إلى مراجعة إرثهم.

لبنان ليس مجرد وطن، بل هو ذاكرة متشابكة من الصراعات والحروب والثأر والأيديولوجيات المتناحرة. هنا، لا يموت الموتى، بل يتحولون إلى أيقونات، إلى رموز تُرفع في كل معركة، إلى حجج تُستخدم في كل صراع، إلى أوثان حديثة تُعبد باسم الوطنية والمقاومة والكرامة. في لبنان، كما في أماكن أخرى من العالم، لا يُسمح للأحياء بأن يختاروا طريقهم بحرية، لأن الأموات يفرضون مسارًا محددًا، يُكتب بالدم قبل أن يُكتب بالكلمات.

في لبنان، يتكرر هذا النمط في كل مرحلة. الحرب الأهلية لم تنتهِ فعليًا، بل تحولت إلى سردية تُوظَّف عند الحاجة. كل فصيل سياسي، كل طائفة، كل جماعة، تحمل قتلاها كأوسمة، تستخدم ذكراهم لتأكيد شرعيتها، لإثبات مظلوميتها، لتبرير سياساتها. لا يُسمح لأي طائفة أو حزب أن ينسى قتلاه، لأن في النسيان خيانة، وفي التذكر هوية.

الحروب تبدأ بشعار وتنتهي بقبر، لكن في لبنان، القبر ليس نهاية الصراع، بل هو بداية نزاع جديد. الأيديولوجيات التي نشأت تحت شعارات العدالة والمقاومة والحرية تحولت إلى أغطية سميكة تخفي وراءها نزعات ثأرية أكثر من كونها مشاريع تغيير حقيقي.

هكذا، يتحول الفرد إلى جزء من منظومة لا خيار له فيها. يصبح القتيل عقيدة، والقاتل لعنة، والحي مجرد جسر بين الاثنين. لا يوجد خروج من هذه الدائرة، لأن الأيديولوجيا تُعيد إنتاجها مرارًا وتكرارًا.

لبنان ليس حالة فريدة في هذا السياق، لكنه حالة مكثفة. هنا، لا يُسمح للنسيان بأن يأخذ مجراه. تُحيي كل طائفة ذكرى مجازرها الخاصة، تُعيد التذكير بمظلومية أبنائها، تُحمِّل أجيالًا جديدة وزر أجيال سابقة. لا أحد يسأل: إلى متى؟ لا أحد يجرؤ على الاعتراف بأن الحروب التي خيضت باسم الشرف، والمقاومة، والحق، لم تحقق أيًا من هذه القيم، بل أسست فقط لمرحلة جديدة من الألم، لطبقة أخرى من القبور تُضاف إلى المشهد.

كل زعيم لبناني يحمل جُرحًا قديمًا، وكل حزب سياسي لديه دماء يطالب بالقصاص لها، وكل طائفة ترى في تاريخها قصة اضطهاد يجب أن تُحكى للأجيال القادمة. لكن ماذا عن الوطن؟ ماذا عن الفكرة البسيطة بأن الماضي لا يجب أن يكون سجنًا؟

الأزمة في لبنان، هي في غياب أي مشروع حقيقي يتجاوز الماضي. فالبلاد تدار الى اليوم كتحالف بين طوائف، لا كمشروع سياسي متكامل. الدولة ليست سوى وسيط بين قوى متناحرة، لا تمتلك شرعية حقيقية بقدر ما يجب ان تمتلك من مهارة في الموازنة بين المتنافسين.

في هذا السياق، الأيديولوجيات ليست سوى أدوات لتعزيز الهويات الطائفية، لا لتجاوزها. لا يُطرح سؤال: ماذا يعني أن تكون لبنانيًا؟ الوطن ليس سوى ساحة للصراع بين هويات متوازية، لا هوية واحدة جامعة.

الطريق إلى الحرية يبدأ بكسر هذه الدائرة، بكسر فكرة أن الموتى يجب أن يُمْلوا على الأحياء طريقهم. ليس المطلوب النسيان، لكن المطلوب التحرر من عبودية الذاكرة. أن يُتاح للأجيال الجديدة أن تعيش حياتها دون أن تكون مجبرة على حمل أعباء لم تكن جزءًا منها.

أن تتحرر يعني أن تختار، أن تقول “لا” حيث قيل لك دائمًا “نعم”، أن تعترف بأن الأموات ماتوا، وأن الحياة تستحق أن تُعاش بعيدًا عن أشباحهم.

لكن، في لبنان كما في كثير من دول العالم، هذه الفكرة ليست سهلة القبول. من يجرؤ على القول إن الشهداء لا يجب أن يكونوا عائقًا أمام المستقبل؟ من يجرؤ على الاعتراف بأن الحرب لا يجب أن تُغذى بحروب جديدة، وأن العدل لا يجب أن يُبنى على مزيد من الدم؟

في النهاية، السؤال ليس فقط عن الموتى، بل عن الأحياء. إلى متى سيظل اللبنانيون أسرى لحروب لم يختاروها؟ إلى متى سيظل الماضي أكثر حضورًا من المستقبل؟ إلى متى ستظل الأيديولوجيا غطاءً لخلافات قبلية وطائفية لا تنتهي؟

التاريخ لا يُمحى، لكنه لا يجب أن يكون سجنًا. والدماء لا تُنسى، لكنها لا يجب أن تصبح وقودًا لحروب جديدة. إذا كان هناك شيء واحد يمكن أن يخرج لبنان من دوامة الصراعات، فهو القدرة على النظر إلى الموتى كجزء من الماضي، لا كمستقبل محتوم.

لكن، هل يجرؤ اللبنانيون على ذلك؟ أم أن الموتى سيظلون يقتلونهم، مرة بعد مرة، جيلاً بعد جيل

لماذا نشعر أننا مدينون لهم بوجودنا، بأحلامنا، وأحيانًا حتى بموتنا؟ هل نختار أن نعيش وفاءً لهم أم أنهم يفرضون علينا طريقًا لا فكاك منه؟ هل يتساوى كل الموتى؟ أم أن هناك من يصبحون أكبر من الحياة نفسها، يتحولون إلى رموز تستمر في تحريك الأحياء، حتى بعد أن يختفي الجسد تحت التراب؟

الموتى الذين نحزن عليهم، والذين نرفع صورهم، والذين نبني لهم التماثيل والنُصب، لا يغادروننا حقًا. إنهم باقون بيننا، في قراراتنا، في سياساتنا، في حروبنا، وحتى في أحلامنا عن السلام. في لبنان كما في بقاع العالم، يُعاد إنتاج الأموات بطرق مختلفة: شهيد، بطل، ضحية، زعيم خالد، مقدّس، مستحق للثأر.

حين يُقتل شخص، يصبح القاتل خصمًا مباشرًا، لكن هل يتوقف الأمر عند هذا الحد؟ هل هي مواجهة بين شخصين فقط، أم أن العائلة، العشيرة، الطائفة، الحزب، الأمة بأكملها تتدخل، فتتحول الدماء إلى هوية؟ الموت ليس نهاية، بل فتح صفحة جديدة عنوانها: كيف ننتقم؟ كيف نستعيد الكرامة؟ كيف لا نسمح بأن يُنسى هذا الدم؟

في لبنان، كما في مناطق أخرى من العالم، لا يحق لأحد أن ينسى. العائلة التي تفقد أحد أفرادها تصبح مسؤولة عن حمل رايته. لا يُسمح لها بالمضي قدمًا كأن شيئًا لم يكن، بل تُدفع إلى تكريس حياتها لمتابعة الطريق الذي فُرض عليها. هكذا، يتحول الحزن إلى قضية، والقضية إلى التزام، والالتزام إلى صراع لا نهاية له.

لماذا نُكرّم القتلى أكثر مما نحتفي بالأحياء؟ لماذا يُنصب تمثال لمن سقط في المعركة، بينما يُهمل من سعى إلى تفاديها؟ لماذا يُصبح القتيل زعيمًا حتى لو لم يكن يريد ذلك؟ ولماذا يتحول من كان فردًا إلى رمز يختزل جماعة بأكملها؟

في الأيديولوجيات الكبرى، في الثورات، في الحروب، في الصراعات الطائفية، دائمًا هناك شهداء يُستدعون لتبرير القرارات. دائمًا هناك صورة تُرفع في المظاهرات، هناك اسم يُردد في الخطابات، هناك ماضٍ يُستعاد ليبرر الحاضر. لكن ماذا لو لم يكن هؤلاء الشهداء يريدون أن نعيش أسرى لموتهم؟ ماذا لو كانوا يفضلون أن نعيش بدلًا من أن نموت باسمهم؟

ليس كل من رحلوا يُحفظون في الذاكرة بنفس الطريقة. هناك موتى يتم تناسيهم سريعًا، وهناك من لا يموتون أبدًا، بل يتحولون إلى أساطير. الفرق لا يكمن فقط في شخصهم، بل في كيفية استخدامهم بعد موتهم. الشهيد يصبح راية سياسية، والقائد المغدور يُستدعى كحجة لاستمرار القتال، والزعيم الراحل يتحول إلى نقطة استقطاب تمنع أي مراجعة لما فعله في حياته.

في بعض المجتمعات، يتحول الموتى إلى آلهة غير معلنة، تصبح ذكراهم مقدسة إلى حد يمنع أي نقاش حولهم. لا يمكن مساءلتهم، لا يمكن محاسبتهم، لا يمكن حتى إعادة تقييم إرثهم. مجرد محاولة مراجعة إرث أحدهم تُعتبر خيانة، في حين أن تقديسه يُعدّ إثباتًا للولاء.

بعد كل هذه الدوامات من الدم، ماذا يبقى؟ تبقى الأوطان ممزقة، تبقى العائلات مشردة، تبقى الأجيال الجديدة تحمل مآسي لم تعشها لكنها ورثتها. يمضي القادة، يمضي القتلة، يمضي الجميع، ويبقى التاريخ متخمًا بالقصص التي تتشابه بلا نهاية.

نغني لمن “رحلوا من زمان”، نبكيهم، نزور قبورهم، نحفظ أسماءهم، لكننا لا نسأل أنفسنا: هل كانوا سيطلبون منا أن نحمل أثقالهم إلى الأبد؟ هل كانوا يريدون لنا أن نبقى عالقين في الماضي الذي كانوا هم أنفسهم يريدون تجاوزه؟

الحرية الحقيقية لا تأتي حين يُهزم العدو، بل حين نتحرر من قبضة الموتى على حياتنا. حين نكف عن إعادة إنتاج معاركهم، حين نفهم أنهم عاشوا زمانهم، وأن علينا أن نعيش زماننا. حين ندرك أن الموت ليس دعوة لمزيد من الموت، بل فرصة لإعادة التفكير في كيف نريد أن نحيا.

لكن، من يملك الشجاعة ليقول ذلك في عالم لا يزال يقدس الأموات أكثر مما يقدس الحياة؟

https://hura7.com/?p=45428

الأكثر قراءة