الثلاثاء, فبراير 18, 2025
1 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

د. بشير عصمت ـ خطاب علي فياض: بين تحديث السردية وإعادة إنتاج المعادلات القديمة

الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي

يأتي خطاب النائب علي فياض في مؤتمر “الوحدة الوطنية والسلم الأهلي وبناء الدولة” في توقيت حساس يفرض قراءة متأنية له، خاصة في سياق التحولات التي يشهدها لبنان والمنطقة بعد الأحداث الزلزالية لعام 2024. على عكس الخطابات السابقة لحزب الله، التي كانت ترتكز بشكل أساسي على منطق المقاومة المطلقة، فإن هذا الخطاب يظهر لغة جديدة تحاول تقديم الحزب كطرف فاعل في مشروع “إصلاح الدولة”، وليس مجرد قوة تدافع عنها من الخارج. فهل نحن أمام تحول حقيقي، أم مجرد إعادة ترتيب للأولويات في ظل المتغيرات؟

التحولات الكبرى: تحديث في المقاربة أم تكتيك مرحلي؟

التحولات التي يشير إليها الخطاب ليست جديدة بحد ذاتها، لكن اللافت هو كيفية مقاربتها. فبدلًا من التعامل معها كجزء من صراع المقاومة، كما كان الحال في خطابات حسن نصر الله ونعيم قاسم، يحاول فياض تقديمها كمرحلة “إعادة تفكير” تتطلب مقاربة أكثر عقلانية، ليس فقط من الخصوم، بل أيضًا من الحزب نفسه. هنا، يتحول الخطاب من كونه مقاوماتيًا تقليديًا إلى خطاب تكيفي مع المتغيرات، حيث تصبح إعادة ترتيب الأولويات أداة استراتيجية بحد ذاتها، وليس مجرد رد فعل على التهديدات الخارجية.

ما هو جديد أيضًا في الخطاب هو التركيز على “إصلاح الدولة” بوصفه أولوية لا يمكن تأجيلها. في السابق، كان الحديث عن الدولة يأتي في سياق نظري، مع التأكيد على أن المقاومة ليست معنية بإدارة الحكم مباشرة. أما اليوم، فهناك دعوة واضحة للانخراط الجدي في مسار الإصلاح، مع الإصرار على تفعيل بنود اتفاق الطائف، وخاصة المادتين 22 و95 المتعلقتين بإلغاء الطائفية السياسية. هذه النقطة بالتحديد لم تكن بنفس هذا الوضوح في الخطابات السابقة، مما يعكس تحولًا في الأولويات، أو على الأقل في أسلوب الخطاب السياسي.

مدّ يد خجولة للحوار: خطوة تكتيكية أم بداية تحول؟

لا يمكن إنكار أن هذا الخطاب يحمل تغيرًا جديًا مقارنة بالسابق. فهو يعكس نوعًا من الاعتراف الضمني بأن الوضع الداخلي بات يشكل تهديدًا حقيقيًا للحزب، وليس فقط الضغوط الخارجية. فبينما كانت خطابات الحزب في الماضي تركز على الأزمة الاقتصادية باعتبارها نتيجة للعقوبات والمؤامرات الدولية، فإن خطاب فياض يحمل إدراكًا أكبر بضرورة معالجة الأسباب الداخلية للأزمة، وهو ما يشير إلى بداية مراجعة، وإن كانت خجولة، للخطاب التقليدي للحزب.

لكن، رغم ذلك، تبقى يد الحزب الممدودة للحوار خجولة ومحدودة، ولا تزال محكومة بمحددات قد تعرقل تحقيق أي اختراق سياسي حقيقي. فالحزب، وإن أبدى استعداده للحديث عن إصلاح الدولة، لا يزال يضع خطوطًا حمراء حول معادلة المقاومة، مما يعني أن أي حديث عن إصلاح الدولة يبقى مشروطًا ببقاء الوضع القائم كما هو عليه.

وهنا يكمن التناقض الأبرز في الخطاب: الدعوة إلى إصلاح الدولة، لكنها دولة لا يمكن أن تكون سيدة قرارها بالكامل. فلا يوجد أي إشارة إلى إمكانية تحرر الدولة من القيود الأمنية والاستراتيجية التي فرضها الحزب، مما يطرح السؤال الأهم: هل نحن أمام تحول حقيقي في نظرة الحزب إلى الدولة، أم مجرد محاولة لكسب الوقت في ظل الضغوط الداخلية والخارجية؟

الوحدة الوطنية: من مواجهة العدو إلى ضبط الداخل

إحدى الإشارات المهمة في هذا الخطاب هي التركيز على الوحدة الوطنية كضرورة لحماية الاستقرار الداخلي، وليس فقط لمواجهة العدو الإسرائيلي. في السابق، كان خطاب الحزب يتناول الوحدة الوطنية في سياق مواجهة الاحتلال والتهديدات الخارجية، أما اليوم، فهناك إدراك متزايد بأن الانقسامات الداخلية باتت تهدد المجتمع اللبناني بحد ذاته. هذه نقطة جديدة نسبيًا تعكس تحوّل الحزب نحو الاعتراف بوجود تحديات داخلية قد تكون أكثر خطورة من التهديدات الخارجية، وبالتالي فإن حماية المقاومة لم تعد فقط في مواجهة إسرائيل، بل أيضًا في ضبط الوضع الداخلي.

لكن، رغم هذه الإشارة الإيجابية، تبقى نقاط الخلاف عميقة، وهي غير قابلة للحل طالما بقي المسدس على الطاولة. لا يمكن الحديث عن بناء دولة حديثة، ديمقراطية، ومتطورة، طالما أن القرارات الاستراتيجية الكبرى لا تزال محكومة بميزان قوة لا يعكس إرادة اللبنانيين جميعًا. هذه المعادلة يجب أن تتغير إذا كان الحزب جادًا في حديثه عن إصلاح الدولة.

حزب الله والدولة: مراجعة متأخرة أم مناورة؟

يبدو أن حزب الله اليوم يطالب الدولة بمعالجة مسألة الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة في جنوب لبنان، بعد أن كان الحزب يتهكم على الدولة ومؤسساتها ويتهمها بالعجز عن القيام بواجبها. هذه مفارقة لافتة، إذ لو كان الحزب قد تبنّى منذ البداية سياسة دعم الدولة وتعزيز مؤسساتها، لما وصل لبنان إلى ما وصل إليه من احتلال جديد لأجزاء من أراضيه، بعد أن انسحب العدو منها عام 2000، ولما تعرض الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لهذا الكم الهائل من الدمار والخسائر البشرية.

إن هذه الدعوة إلى العودة إلى الدولة قد تكون مؤشرًا على إعادة نظر جزئية في استراتيجية الحزب، لكنها لا تزال غير كافية. فكل تأخير في إجراء مراجعة حقيقية قد يعني أن الحزب لا يزال غير مقتنع، أو غير راغب، في التحول إلى حزب سياسي بالكامل. وهو ما يطرح تساؤلًا آخر: هل ما نشهده اليوم هو مناورة تكتيكية، أم بداية قناعة متأخرة بضرورة التحول؟

في المحصلة، يحمل خطاب علي فياض لغة أكثر انفتاحًا على مفهوم الدولة والإصلاح السياسي، مقارنة بخطابات نصر الله ونعيم قاسم التي كانت أكثر تركيزًا على البعد العسكري والمقاوم. لكنه يبقى إجرائيًا وليس جوهريًا، أي أنه محاولة لطرح الحزب كجزء من الحل دون تقديم تنازلات حقيقية. الجديد في الخطاب هو الشكل، لكن المضمون لا يزال خاضعًا للمحددات القديمة. ومع ذلك، فإن مجرد الحديث عن الدولة كمشروع للإصلاح، وليس فقط كأداة لحماية المقاومة، هو مؤشر يستحق الوقوف عنده.

لكن يبقى السؤال الأهم: هل سيتحول هذا التغيير في الخطاب إلى تغيير في السلوك؟ أم أن الحزب سيبقى متمسكًا بالمعادلة ذاتها، مع تعديلات تجميلية في الخطاب؟ حتى الآن، لا شيء يشير إلى أن هناك استعدادًا جوهريًا للتخلي عن النهج القديم، لكن مجرد طرح الحزب لإصلاح الدولة بوصفه أولوية يستحق المتابعة، ويبقى أن نرى هل سيترسخ هذا النهج بمواقف و سلوك يؤكد هذا المنحى و هل سيكون ثمة اتجاه لدى الأحزاب الأخرى لملاقاة هذا الخطاب إذا تأكد.

للتواصل مع كاتب المقال: osmatbachir@outlook.com

https://hura7.com/?p=43420

الأكثر قراءة