الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي
للمرة الأولى منذ زمن طويل، يسمع اللبنانيون صوت دولتهم في المحافل العربية بوضوح وثقة، لا كدولة هامشية تتلقى الإملاءات، بل كطرف فاعل يحمل رؤية واضحة للمنطقة وقضاياها. خطاب الرئيس جوزيف عون في القمة العربية لم يكن مجرد خطاب بروتوكولي، بل شكّل لحظة لبنانية استثنائية، حيث أعاد التأكيد على أن القضية الفلسطينية ليست مجرد قضية نزاع، بل معركة وجودية سياسية تربط بين فلسطين ولبنان والعرب. لم يكن هذا الخطاب مجرّد إعادة إنتاج للمواقف التقليدية، بل كان تعبيرًا عن رؤية متماسكة، ترى أن قوة فلسطين ليست فقط في مقاومتها، بل في قوة محيطها العربي، وأن تفكك الدول العربية هو أكبر هدية تقدم لإسرائيل، التي لا تنتصر إلا عندما تتهاوى الدول من داخلها.
وفي موازاة هذا الخطاب، كان وليد جنبلاط يخوض معركته على جبهة أخرى، حيث وقف سدًا منيعًا أمام الاندفاعة الإسرائيلية نحو الجولان والجنوب السوري، محذرًا من مشاريع التلاعب بالأقليات وإعادة إحياء لعبة التقسيم تحت عناوين جديدة. وكعادته، لم يهادن ولم يراوغ، بل أطلق مواقف واضحة، مدركًا أن إسرائيل لا تعرض “حماية” الدروز في سوريا بدافع الحرص عليهم، بل في سياق مشروع قديم-جديد يقوم على تفتيت المفتت وإضعاف الضعيف. يدرك جنبلاط أن أي استدراج درزي إلى الفخ الإسرائيلي، بحجة التهديدات المحيطة بهم، لن يكون إلا إعادة لإنتاج سيناريوهات جُرِّبت من قبل، في لبنان كما في سوريا، حين استخدمت إسرائيل الأقليات كأدوات ضغط ثم تخلت عنها عند أول منعطف.
إن ما يجعل لحظة عون-جنبلاط استثنائية، هو أنهما قدّما معًا وجهين لمعادلة واحدة: معادلة الدولة الوطنية في مواجهة الفوضى الإقليمية. خطاب عون أعاد للبنان بعده العربي، وأثبت أن الدولة قادرة على لعب دورها الطبيعي حين يكون لديها رؤية، فيما جنبلاط، بخبرته المتراكمة، يقطع الطريق على المخطط الإسرائيلي الساعي إلى عزل الدروز عن عمقهم الوطني وإدخالهم في معادلات لا تخدم سوى تل أبيب. لا بد من ملاحظة أن الدروز هي الجماعة الوحيدة التي لا حبل سري لها يربطها بمرجعيات دولية.
المشكلة ليست فقط في إسرائيل، بل في الأنظمة التعصبية القومية المتشددة التي باتت قابلة لاختراق كل مشاريع التقسيم. الدول لم تعد دولًا بالمعنى الحقيقي، بل باتت كيانات هشة تبحث عن حمايات خارجية، ما يجعل الأقليات، التي كانت تاريخيًا جزءًا من النسيج الوطني، عرضة للارتهان لمشاريع لا تمتّ إلى مصالحها بصلة. لم يعد مستغربًا أن تُطرح مشاريع “حماية الدروز”، تمامًا كما طُرحت مشاريع “حماية المسيحيين” و”دعم الأكراد”، وكلها لم تكن سوى أدوات لخلق كيانات وظيفية تخدم استراتيجيات القوى الكبرى.
جنبلاط، الذي يعرف هذه اللعبة أكثر من غيره، لا يتعامل مع الواقع من منطلق طائفي، بل من منطلق سياسي يرى الصورة بكامل أبعادها. فهو لم يكتفِ برفض الطروحات الإسرائيلية، بل حذّر الدروز من الانجرار وراء أوهام “الضمانات الدولية”، التي لا تعني سوى المزيد من العزلة والمخاطر. وهو بذلك يتجاوز كونه زعيمًا درزيًا، ليكون أحد الأصوات القليلة في المنطقة التي تدرك أن الحل لا يكون في البحث عن حماية من الخارج، بل في إعادة إنتاج المعادلة الوطنية الديمقراطية سواء في لبنان أو في سوريا.
المفارقة أن جنبلاط لا يواجه إسرائيل فقط، بل يواجه أيضًا بيئة عربية ضعيفة تفتح المجال أمام هذه المشاريع. الأنظمة التي تعاني من نقص الديمقراطية، تحفز مشاريع التقسيم والتي تعامل الأقليات إما كعبء أو كورقة تفاوض، هي التي تجعل هذه المشاريع ممكنة. فلو كانت الدولة الوطنية قادرة على استيعاب جميع مكوناتها، لما احتاج أي طرف إلى البحث عن حماية خارجية. المشكلة ليست في الدروز، بل في من يدفعهم إلى الزاوية، ليجدوا أنفسهم أمام خيارين كلاهما أسوأ من الآخر: إما الاندماج في مشاريع خارجية، أو مواجهة خطر التهميش داخل دولهم.
في لحظة كهذه، لا يمكن ترك جنبلاط وحيدًا في هذه المواجهة. موقفه ليس شأنًا درزيًا، بل هو جزء من معركة أكبر تتعلق بمصير الدولة الوطنية في المنطقة. لا يمكن للبنان أن يقف متفرجًا بينما يتم رسم خرائط جديدة للمنطقة، ولا يمكن للدروز أن يكونوا وحدهم في التصدي للمشاريع التي تستهدفهم كما تستهدف غيرهم. من هنا، فإن خطاب عون لم يكن مجرد دعم للقضية الفلسطينية، بل كان تأكيدًا على أن لبنان، بكل مكوناته، لا يزال يرى نفسه جزءًا من معركة الاستقلال الوطني، لا من معركة التقسيم وإعادة رسم الحدود.
هل تستطيع الدولة اللبنانية البناء على هذه اللحظة، أم أنها ستُترك لتتآكل مجددًا تحت وطأة الصراعات الداخلية؟ هل يمكن لخطاب عون أن يكون بداية لسياسة لبنانية أكثر وضوحًا في مواجهة مشاريع الهيمنة؟ هل يمكن لموقف جنبلاط أن يتحول إلى قاعدة وطنية جامعة، بدل أن يُنظر إليه كتحرك درزي معزول؟
المعركة اليوم ليست فقط على مصير الدروز، بل على مصير المنطقة ككل. إما أن يبقى المشرق العربي في دوامة التفتيت، مشرعًا أبوابه لكل المشاريع الخارجية، وإما أن يكون هناك قرار وطني-عربي باستعادة زمام الأمور، بعيدًا عن لعبة الاصطفافات والمصالح الضيقة. جنبلاط، في موقفه الأخير، لم يكن مجرد زعيم طائفي، بل كان رجل سياسة يتحدث بلغة الدولة في زمن يُراد فيه للأقليات أن تكون أدوات في لعبة الأمم. إنه موقف الحكمة، في مواجهة الجنون التوسعي الإسرائيلي، والهوس التركي بإدارة الصراعات الطائفية، وغياب أي رؤية عربية قادرة على استعادة القرار الوطني المستقل.
لبنان في لحظة نادرة يستعيد دوره، بين خطاب عون الذي أعاد للدولة صوتها، وموقف جنبلاط الذي يحمي مكونًا أساسيًا من الاستغلال السياسي. فإما أن يُبنى على هذه اللحظة، وإما أن تضيع كما ضاعت فرص كثيرة من قبل، ليبقى لبنان مجرد متلقٍ للأحداث، بدل أن يكون فاعلًا في صياغتها.