السبت, يناير 18, 2025
-0 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

د. بشير عصمت ـ على هامش انتخابات الرئاسة في لبنان: ما بين المبدئية الطهرانية والمبدئية الواقعية

الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي

ابن رشد: الحكمة هي أن تعرف الحق وتعمل به، أما الطهارة الزائفة فلا تتجاوز قناع الفضيلة“.

نيتشه: أولئك الذين يتشبثون بالمثاليات يميلون أحيانًا إلى تجاهل الحياة نفسها“.

كان من المفترض أن يكون موضوعنا اليوم عن حكومة شابة منقذة، أو عن الخطوات الأولى للعهد، أو عن ضرورة التمسك بعدم اختيار رئيس حكومة لا يتماشى مع برنامج الحكم. لكن النقاش اليوم يتعدى هذه المسائل إلى أبعاد أعمق، حيث تصطفّ الأطراف بين مهللين لظنّهم انتصارهم بمجيء جوزيف عون، و”حردانين” يوزعون الاتهامات يمينًا وشمالًا لظنّهم نكبتهم، وآخرين يصطادون في الماء العكر عبر لصق التهم بأشخاص شرفاء تحمّلوا الإهانة والتشهير دون الانجرار إلى موجات التجريح.

انتخاب جوزيف عون ليس فرصة للنكد و للكيد
اختيار جوزيف عون يجب أن يُعتبر أملًا لكل اللبنانيين، لا مناسبة للكيد السياسي. فالتزامه بالخطاب البرنامجي يفتح أبواب أمل واسعة، ويظل من الضروري أن يبقى قريبًا من الناس، بعيدًا عن قبضة البيروقراطية في القصر. وفي هذا السياق، يجب أن يُثمن احترام بعض التغييريين للدستور، مع توجيه احترام مضاعف لأولئك الذين تجاوزوه عن قناعة بالضرورة.

إن النقاش حول انتخاب جوزيف عون لم يكن مجرد خلاف دستوري، بل انعكاس للصراع بين مبدئية الطهارة الواقعية ومبدئية الطهارة المثالية. صحيح أن انتخاب موظف من الفئة الأولى دون استقالته يتعارض مع نص الدستور، لكن الظروف الاستثنائية التي يعيشها لبنان، حيث يواجه خطر التفكك والزوال، تفرض حلولًا استثنائية. هنا يبرز التساؤل: أي مخرج آخر كان متاحًا؟ الانتظار حتى زوال الكيان؟

إن الاختلاف يكمن  في جذر مخالفة الدستور لا بالمخالفة نفسها، بل أيضًا في تقييم وضع البلد حيث الظرف الاستثنائي يفرض إجراءات استثنائية ومن الصعب القول أن الوضع لم يكن استثنائيًا. فتجاوز الدستور ليس حالة خاصة بلبنان، بل هو مسار شهدته دول عديدة عندما واجهت أزمات حادة فرضت اتخاذ قرارات استثنائية لصالح المصلحة العامة. مثالٌ ما فعل الجنرال ديغول بقوله: “لو خُيّرت بين مصلحة الشعب والدستور، لاخترت مصلحة الشعب”. هذا الموقف كان في صلب قيادته لفرنسا في لحظات مفصلية خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، عندما كان من الضروري تجاوز القيود الدستورية لإعادة بناء الدولة ومواجهة التحديات.

وفي الولايات المتحدة، خلال أزمة الحرب الأهلية، اتخذ الرئيس أبراهام لنكولن قرارات استثنائية مثل تعليق “حق المثول أمام القضاء”، وهو إجراء دستوري أساسي، بدعوى الحفاظ على وحدة البلاد في وجه التمرد. ورغم الانتقادات، أثبت التاريخ أن تلك الخطوات كانت ضرورية لإنقاذ الدولة.

التدخل الخارجي: عيب مستمر وضرورة مفروضة

إن جذور التدخل الخارجي ليست وليدة اللحظة، بل تمتد إلى تنظيمات عام 1839 العثمانية التي كرّست مفهوم الحمايات الأجنبية وساهمت في تصفية التركة العثمانية. وصولًا إلى إعلان لبنان الكبير عام 1920، بقي التدخل الخارجي حاضراً مع انتخاب رؤساء ذوي ولاء فرنسي في ظل الانتداب، واستمر حتى استقلال عام 1943 حين انقلبت بريطانيا على الهيمنة الفرنسية لتفرض توازنًا جديدًا، ثم استمر مع الأميركيين والمصريين. وبعد ذلك، جاءت المرحلة السورية التي أكملت مسيرة التحكم الخارجي، حيث أُعيد إنتاج النظام الطائفي واستُخدمت الانقسامات الداخلية ذريعة لاستمرار التدخلات.

ومع ذلك، تبقى المشكلة الأساسية داخلية بين اللبنانيين أنفسهم. لقد درجت العادة على تحميل الخارج مسؤولية الأزمات استنادًا إلى نظرية المؤامرة، مرةً بإلقاء اللوم على الفلسطيني، ومرةً على السوري، ومرةً على الغرب. لكن الحقيقة هي أن الطبقة السياسية الحاكمة، بسعيها الدائم لتحقيق مكاسب طائفية وإعادة إنتاج السلطة نفسها، هي التي تستدعي التدخل الخارجي لحل أزماتها السياسية والحصول على الدعم المالي. إضافة إلى حبل السرة القصير بين الطوائف الدينية والخارج مما يجعل الثبات الوطني مهتزًا.

لكن المفارقة أن الجهات الخارجية غالبًا ما تختار للبنان شخصيات أكثر كفاءة من تلك التي ينتخبها الشعب نفسه. ورغم ذلك، يبقى الاعتماد على الخارج خطأ استراتيجيًا يجب تجاوزه، إذ لا يمكن بناء وطن على تدخلات خارجية متكررة.

الطائفية والدستور: الصراع المزمن
منذ اتفاق الطائف، لم يُطبق الدستور سوى بشكل انتقائي، ما يعكس قوة الطائفية أمام القانون. وبينما يدعو المثاليون إلى الالتزام الحرفي بالدستور، يرى الواقعيون أن تجاوز النصوص أحيانًا ضرورة لإنقاذ البلاد. إن التحدي الحقيقي يكمن في تحويل هذه اللحظة إلى فرصة لتطبيق الطائف فعليًا، بما يضمن إصلاح النظام السياسي وتجاوز المحاصصة الطائفية.

انتخاب جوزيف عون يجب أن يكون نقطة انطلاق، لا نهاية النقاش. المطلوب الآن هو مواجهة الدولة العميقة، ومنع الطبقة السياسية من استعادة السيطرة على مفاصل الحكم. بدلاً من الاكتفاء بالنقد، يجب تقديم حلول عملية تبدأ بتفعيل بيان الرئيس الجديد وإطلاق خطة إصلاح شاملة.

إن بناء نظام سياسي قائم على الوطنية السياسية بدلاً من الطائفية هو الأمل الوحيد لإنقاذ لبنان. هذا الطموح لم يتحقق بعد، لكنه يظل الهدف الذي يجب أن يسعى إليه الجميع. الشعب اللبناني لا يخاف النقد، بل يحتاج إلى رؤية واضحة وإجراءات ملموسة تعيد بناء ثقته بالدولة وتضع حدًا لدائرة الأزمات.

في النهاية، يبقى التحدي الأكبر هو تحقيق التوازن بين المبدئية الواقعية والطموح الوطني، بحيث يصبح لبنان وطنًا قويًا وقادرًا على حماية سيادته واستقلاله في وجه التحديات الداخلية والخارجية.

https://hura7.com/?p=41526

الأكثر قراءة