الثلاثاء, أبريل 29, 2025
17.1 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

إصدارات أسبوعية

د. بشير عصمت ـ فلول العصابة الحاكمة في لبنان: فساد متجذّر ودولة عميقة لا تموت (1)

الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي

هم مين وإحنا مين؟ هم الأمراء والسلاطين، هم المال والحكم معاهم، وإحنا الفقراء المحكومين. حزّر فزّر شغّل مخّك، شوف مين فينا بيحكم مين. إحنا مين وهمّ ... أحمد فؤاد نجم.

خلال أسابيع، تدخل البلاد معركة الانتخابات البلدية، وهي ليست سوى البروفة الأولى للانتخابات النيابية المقبلة. وكما هو متوقع، تتأهب مجموعات الاعتراض لتشكيل لوائحها، لا سيما في المدن الكبرى، في مواجهة منظومة سياسية واقتصادية لا تزال تمسك بخناق البلاد وتخطط لتجديد قبضتها بأي وسيلة.

ما لم يعد خافياً، هو حالة الهيجان في صفوف تحالف الفساد – من السلطة السياسية إلى المصارف وكبار المحتكرين – والاندفاعة المنظمة لإطلاق اتهامات ملفقة ضد قوى الاعتراض، في محاولة مفضوحة لإقصائها من المشهد منذ البداية، حتى من مجرّد عضوية اللجان النيابية، وكأن “الإيستابليشمنت” قررت أن تحتكر المسرح بالكامل: تُمثّل كما تشاء، وتُحمّل حراك تشرين وحده مسؤولية الانهيار الشامل، لتغسل أيديها من عقدٍ كامل من النهب والتخريب.

وإن كنت تملك منصة إعلامية وتحتاج إلى تمويل، فالمطلوب واضح: ابحث عن أحد العرّابين، وادفع الثمن بالمشاركة في حفلة الافتراء الممنهج على من تبقّى من أصوات حرّة. أما إذا تجاوزنا هذا الضجيج وحكمنا بالعقل والعدل، فالحقيقة ساطعة: من يستعدّ لتجديد السيطرة على الحياة السياسية هم أنفسهم من يخوضون حرباً عبثية ضد طواحين الهواء – مرة بشكوى هزلية ضد منير يونس، وأخرى بحملات تشويه ضد “ميغافون” و”درج” و”كلنا إرادة”.

ولأن الكذب يمرّ إذا لم نتصدى له، ولأن الوقت حان لتصويب السردية وإعادة الاعتبار للحقيقة، ولتجنّب الوقوع في فخ السماجة الإعلامية من “إم تي في” إلى “صار وقتها” و”جنود ربّ” الصحناوي، مروراً بوقاحة الميقاتي والمرّ، ستكون هذه السلسلة ردّاً واضحاً، ومساهمة في تفكيك آلة التزوير المتقدمة.

منذ أن استيقظ اللبنانيون ذات تشرين على قعر الهاوية، تتالت الفضائح والانهيارات، من المصارف إلى الكهرباء، ومن القضاء إلى التعليم، ومن السياسة إلى الأمن. ما يحدث ليس مجرّد أزمة نظام أو خلل إداري أو تقصير في الإدارة العامة، بل هو نتيجة حتمية لعقود من الإجرام المنظم الذي مارسته طبقة سياسية واحدة، مهما تنوّعت ألوانها الطائفية، وتعددت تسمياتها ومقاماتها. هذه الطبقة – أو بالأحرى هذه العصابة – تعمل كيد واحدة، صوت واحد، قلب واحد، هدف واحد: ديمومة النهب، واستمرار السيطرة.

الدولة العميقة في لبنان ليست شبحاً ولا خرافة. هي موجودة، ناشطة، فاعلة، متغلغلة في المؤسسات كما في الإعلام، في الاقتصاد كما في القضاء، في الأمن كما في النقابات. هذه الدولة العميقة هي صنيعة الاحتلال السوري، ورثته القوى اللبنانية التي شاركت في المحاصصة بعد الطائف. بقايا الشبكة الأمنية-المالية-السياسية التي صنعها حافظ الأسد ونفذها عملاؤه في لبنان لا تزال تدير الشأن العام بخيوط غير مرئية، عبر شبكة معقّدة من الموظفين الكبار، القضاة، الضباط، المستشارين، المتنفذين، رجال الدين، أصحاب المصارف، مدراء الإعلام… كلّهم مستنفرون اليوم لإسقاط قوى التغيير.

لأن قوى التغيير لا تخضع. لأنها لم تتورّط. لأنها لا تقبل بالمساومات. لأنها لا تهادن. لذلك تُحارب.

لم يكن صدفة أن يتم استهداف “كلنا إرادة” بهذا العنف. لم يكن صدفة أن يتحوّل المؤتمر الصحفي لهذه الجمعية الإصلاحية إلى محطّ تحريض وجنون سياسي-إعلامي. لم يكن صدفة أن تُخاض حملة منظّمة، ممولة، متزامنة، ضد مجموعة من الاقتصاديين والمفكرين والمنصات الحرة والمستقلّة. العصابة شعرت بالخطر: هناك من بدأ يفضح. من يقترح. من يجمع الكفاءات. من لا يطلب صفقة.

هنا تبدأ الأسطورة اللبنانية: أن من يريد الإصلاح هو “عميل”، وأن من يقدّم اقتراحًا اقتصاديًا عقلانيًا هو أداة خارجية، وأن من يطالب بمحاسبة المصارف هو مندسّ، وأن من يدعو لاستقلالية القضاء خائن. هؤلاء، وفق قاموس المنظومة، يجب أن يُسحقوا، لأنهم يعكرون حفلة النهب الممتدة منذ أكثر من ثلاثين عاماً.

لقد تورّطت الدولة العميقة في كل قطاع. في الكهرباء، سرقوا المليارات من دون أن يرى اللبنانيون نوراً. في الاتصالات، أُهدرت المليارات، وذهبت الأرباح إلى حسابات خاصة، بينما الدولة تُنهب. في المصارف، صمتوا على تهريب أموالهم وأموال أصحاب النفوذ، ثم أعلنوا الإفلاس ليتركوا المصارف تنهار فوق رؤوس المودعين. في القضاء، روّضوا القضاة، عيّنوا المحسوبين، عطّلوا التحقيقات، ودفنوا انفجار المرفأ بجثة العدالة. في البلديات، ابتزّوا الناس، حوّلوا الخدمات إلى وسيلة إذلال، وجعلوا المال العام مالهم الخاص.

لكنهم لم يكتفوا بالفساد. مارسوا التحريض. حرّكوا جيوشهم الإلكترونية. أطلقوا حملة التشويه والتضليل. اتهموا المجتمع المدني بأنه السبب في الأزمة. استدعوا أبشع ما في القاموس اللبناني: جنود الرب، حزب الله، الصلبان، البوارق السوداء، وكل الخطابات الدينية والعسكرية والرمزية التي تزرع الكراهية والانقسام. أرادوا أن يوحّدوا جمهورهم ضد خصم وهمي. أن يشيطنوا كل ما ومن لا يشبههم.

أما الحقيقة، فهي أبسط مما يريدون إخفاءه: أن العصابة تعمل كيد واحدة، مهما بدا أنها متناحرة. الميقاتي، سلامة، حلفاؤهم في المصارف، شياطينهم في الإعلام، سماسرتهم في القضاء، حلفاؤهم في الغرف السوداء الأمنية، كلهم شركاء. يتنازعون على الشاشة. يتفقون في الكواليس. يتراشقون أمام الكاميرات. يتقاسمون الغنائم في الخفاء.

والأخطر؟ أنهم نجحوا في إقناع جزء من اللبنانيين أن التغيير مستحيل، وأن كل من يحاول هو مجرّد واجهة لقوة خارجية، أو حزب متنكر، أو طامح لمنصب. هؤلاء المحبطون ليسوا ضحايا فقط. هم أحياناً شركاء في استمرار المنظومة، من حيث لا يدرون. لأن تصديق الكذبة هو ما يمنح الكاذب قوة.

والسؤال الآن: ماذا فعلت القوى التغييرية؟ ماذا فعلت “كلنا إرادة”؟ فعلت ما لا يجرؤ عليه الآخرون: لم تسمّ وزراء، لم تطلب حصة، لم تساوم، بل قدمت مقترحات، رؤى، كفاءات. تحركت ضمن القانون. رفضت الصفقات. كشفت المستور. وعندما لم يُرِد أحد التحدّث عن السياسات المالية، تكلمت. وعندما خاف الجميع من مواجهة المصارف، واجهت. وعندما سكتوا عن فساد الحاكم، صرخت.

هؤلاء هم الخطر الحقيقي على المنظومة، لأنهم يحملون مشروعاً، لا مجرد احتجاج. لأنهم يؤمنون بأن المواطن يستحقّ دولة، لا مزرعة. وبأن لبنان يمكن أن يُحكم بالعقل، لا بالتحريض. وبأن السياسة ممكن أن تُمارس بشرف، لا بالصفقات.

وفي وجههم، تقف منظومة لا تعرف إلا أسلوبًا واحدًا: الاتهام، ثم الاتهام، ثم الاتهام. يشهرون سيف التخوين، التبعية، التمويل، المؤامرة. يظنون أن هذه الأسلحة التي دجّنوها لعقود لا تزال ترعب أحداً. لا يعرفون أن الناس تغيّروا. أن المواطن الذي حُرم من وديعته، وفقد حقه في الاستشفاء، ويدفع فواتير الماء والكهرباء والقمامة، لم يعد يصدّقهم. أنه ينتظر شيئاً واحداً: أن يُساق الفاسد إلى السجن. أن يُستعاد المال المنهوب. أن تسقط هذه المنظومة.

نحن أمام لحظة سياسية فارقة. لحظة مفصلية. ليس لأن التغيير اقترب، بل لأن العصابة قررت أن تمنع أي تغيير، ولو بالدوس على البلد كله. هم اليوم في حالة رعب. على أبواب انتخابات بلدية، يريدون سحق كل إمكانية لوصول إصلاحيين إلى السلطة المحلية. يستنفرون. يشترون. يرهبون. يهددون. يتناحرون في العلن، ويتوحدون في السرّ. يوزّعون الرشى من أموال المودعين، ويقدّمونها على طبق من تحالفات خسيسة، وقوانين هجينة.

هل من يراقب؟ هل من يحاسب؟ هل من يسمع؟

العالم يحتفل بيوم مكافحة الفساد، ولبنان يتصدر القائمة السوداء. سقط من المرتبة 138 إلى 168 خلال خمس سنوات فقط. أي عار أكبر؟ أي انحدار أوسع؟ وهم يتباهون. يركبون سيارات مدفوعة من المال العام. يحمون سلامة بعد أن دمّر النقد. يعيّنون من يحميهم في القضاء. يتّهمون التغييريين. يشيطنون الإعلام المستقل. ويشترون، يشترون، يشترون كل من يقبل.

لكن الحقيقة لا تُشترى.

الفساد في لبنان ليس مجرد سرقة. إنه منظومة متكاملة. دينامية مستمرة. عقلية متوارثة. ثقافة متجذّرة. والطريق الوحيد للنجاة هو بتعرية هذه المنظومة، وتفكيك تحالفاتها، وفضح شراكاتها، وكسر أدواتها.

من هنا نبدأ. من إدانة الخنوع، لا محاورة الخوف. من الوقوف مع من يحاول، لا من يسقط عمداً في وحل المنظومة. من كشف ألاعيب الإعلام التابع، لا التسليم لروايته. من تسمية المجرم باسمه. ومن تسمية المصلح باسمه.

إنها معركة، ليست تقنية ولا إدارية. إنها معركة وجودية بين من يريد دولة، ومن يريد مزرعة. بين من يبني، ومن ينهب. بين من يُصلح، ومن يُحرّض. بين شعب يُذلّ، وعصابة تحكمه بالريموت كونترول.

وسيأتي اليوم الذي تُسقط فيه الريموت، عاجلاً أم آجلاً. (يتبع)

https://hura7.com/?p=48600

الأكثر قراءة