الثلاثاء, أبريل 29, 2025
16.4 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

إصدارات أسبوعية

د. بشير عصمت ـ في ذكرى 13 نيسان: لبنان بين خرائط الخارج وأوهام الداخل (عن الانهيار، الدولة المدنية، وحدود الصراع الحقيقي)

الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي

بدعة “حرب الآخرين على أرضنا

ليس أخطر من الحرب ذاتها إلا أن نكذب على أنفسنا بشأنها. أن نختصر تاريخ الحرب اللبنانية الطويل بمقولة تسويغية مثل “حرب الآخرين على أرض لبنان”، كأنّ اللبناني كان مجرد شاهد صامت، أو ضحية مغفلة، لا يملك من أمره شيئاً. هذه المقولة ليست بريئة، بل جزء من نظام الإنكار الوطني، الذي حوّل الهزيمة إلى أسطورة، والدمار إلى مصادفة عابرة، والقتلة إلى أبطال. نعم، تدخّل الخارج. لكن الداخل كان يطلب التدخّل، يستدعيه، يناديه، يفاوضه، يستقوي به، يوفرله الغطاء و المبرر والولاءات. الحرب لم تكن حرب الآخرين وحدهم، بل كانت أيضاً حربنا على أنفسنا، على هويتنا الوطنية المفقودة، على مشروع الدولة المستحيل، على وطن لم يُرِدهُ حكّامه إلّا مزرعةً أو متراساً أو مصرفاً مفتوحاً للنهب والطوائف.

برنارد لويس… الخارطة كإغراء لا كقدر

ليس برنارد لويس هو شيطان التاريخ، ولا هو القدر الذي يُرسم على طاولات واشنطن ولندن وتل أبيب ليتحقق كما هو. أفكاره وخططه ليست أكثر من مرآة لمطامع قديمة وجغرافيا مفتوحة على الطوائف والانقسامات. فكلّ خريطة للتقسيم الخارجي تحتاج أرضاً رخوة في الداخل، وزعامات قصيرة النظر، وعقولاً مراهقة مستعدة لحمل السلاح قبل حمل الفكرة. لبنان لم يكن يوماً هدفاً لخرائط التقسيم لأنه بلد غني فقط، بل لأنه بلد هشّ، هشاشة دولته، وانقسام هويته، وغرور نُخبه التي لم تتعلّم أن الدول تُبنى بالعقل والعدالة، لا بالدماء والشعارات الفارغة.

خطط لويس ليست قدراً، بل أدوات لمن يريد أن يستخدمها. والسؤال اليوم ليس ماذا أراد لويس أو كيسنجر أو وليد فارس أو غيرهم، بل ماذا فعلنا نحن بأنفسنا؟ هل حفظنا تنوّعنا كقيمة حضارية أم حولناه إلى لعنة متحركة؟ هل امتلكنا مشروعاً وطنياً صلباً يصدّر الوحدة والاعتدال، أم صرنا نصدر الطائفية والخوف والعجز إلى محيطنا؟

الطائفية الاقتصادية وانهيار النظام المالي

لا تحتاج الحرب في لبنان إلى المدافع بعد اليوم، يكفيها المصارف. المصارف التي تحوّلت إلى مدافع مالية تطلق قذائفها على ودائع الناس وأرزاقهم. المصارف التي لم تكن يوماً أدوات اقتصاد وطني بل أدوات نظام زبائني يحتقر الفقراء ويخدم زعامات الطوائف.

هذا الانهيار المالي الذي نعيشه ليس إلا تتويجاً منطقياً لانهيار النظام السياسي نفسه. كلّ ما بُني بعد الطائف كان دولة هشّة، دولة محاصصة لا مشروع لها سوى إعادة إنتاج الفساد بالطائفية، وإعادة تبرير الفشل بالخوف، وإعادة تعويم العصبيات الدينية كبديل عن المواطنة.

وهم المقاومة بلا دولة وسراب السلاح الموازي

إنّ أخطر ما نعيشه اليوم، هو إصرار البعض على معادلة قاتلة: لا وطن بلا سلاح، ولا دولة بلا مقاومة خارجها. وهذه الوصفة لم تنتج في تاريخ الشعوب دولة حرة ولا اقتصاداً مستقلاً ولا مشروعاً وطنياً قابلاً للحياة.

ليس السلاح في الداخل ضمانة للسيادة، بل هو إعلان موت الدولة. والمكسب الحقيقي ليس مزيداً من السلاح، بل مزيداً من الدولة، من القانون، من وحدة السلاح تحت راية الدولة، وليس على أطرافها.

الدولة المدنية البديلة… أو الهاوية الجديدة

الحلّ لا يكون باستبدال السلاح بالحياد الوهمي، ولا باستبدال الطائفية بالتسويات الفوقية التي لا تغيّر شيئاً في بنية النظام، بل الحلّ يبدأ من فكرة الدولة المدنية العادلة، الدولة التي لا تساوي بين الجلاد والضحية، ولا تحكمها التوازنات الطائفية بل توازن العدالة والقانون.

الدولة المدنية البديلة ليست شعاراً فارغاً، بل هي مشروع صعب، يحتاج جرأة في مواجهة المصالح الدولية، ومواجهة الميليشيات المحلية، ومواجهة الجهل الشعبي الذي اعتاد على الزعامة أكثر من اعتياده على الوطن.

إلى أين نمضي؟

الحرب في لبنان لم تضع أوزارها بعد، لأنها لم تضع أوزارها في العقول. وما هو آتٍ إلى المنطقة من تغيرات هائلة، ليس مجرد تفاصيل على هامش الحدث العالمي، بل هو قلب التحوّل. ستُرسم خرائط جديدة، وستُعاد كتابة معادلات النفوذ، وستتبدل قوى إقليمية، لكن هذا كله ليس قدراً محتوماً على لبنان إلّا إذا ارتضينا أن نكون ضحايا مجدداً.

الرهان الوحيد الذي لا يهزم هو الدولة. الدولة وحدها هي المعبر الأخير إلى الحياة الكريمة، إلى الاستقلال الحقيقي، إلى الاقتصاد العادل، إلى السياسة النظيفة. أمّا سواها، فسراب جديد من السرابات، ينتج حروباً جديدة، وأوهاماً جديدة، وقبوراً جديدة.

السؤال اليوم ليس من معنا ومن ضدّنا، بل السؤال الحقيقي: هل نملك نحن إرادة أن نكون وطناً؟ أم سنبقى هامشاً على خرائط الخارج، ووقوداً لحروب المراهقين من زعماء الداخل؟

الزمن يضيق، والفرص تنحسر، ولبنان ليس إلّا اختباراً أخيراً للعقل الجماعي: إمّا أن نستعيده دولة ووطناً، أو نتركه ينهار في قاع التاريخ… كما أراد البعض وكما خطّط البعض… وكما خذله البعض في الداخل أكثر من كلّ الأعداء في الخارج.

ومَن لم يعرف وحشية الحرب الأهلية اللبنانية، لم يعرف وجهها الحقيقي. الحرب ليست مجرّد تاريخ، ولا مجرد أحداث موثّقة في كتب أو صور على الجدران، بل هي جراح حيّة لم تندمل. الحرب في لبنان لم تكن فقط قتالاً بين بندقيتين، بل كانت سحقاً للبيوت، طرداً للسكان، تشويهاً للأجساد، وبعثرةً للذاكرة. آلاف القتلى سقطوا بلا معنى، وعشرات آلاف الجرحى حملوا أجسادهم المعطوبة كأثقال لا يرفعها زمن ولا تخففها خطابات المصالحة الزائفة.

والأفظع من القتل كان الإخفاء. مفقودو الحرب اللبنانية هم الشهادة الأبشع على انهيار الدولة الأخلاقية قبل انهيار الدولة السياسية. أكثر من 17 ألف مفقود — رجال ونساء، أطفال وشيوخ — غابوا في سجون الظلام والمقابر الجماعية والمجازر المنسية، وبقيت عائلاتهم عالقة في انتظار لا ينتهي.

وبعد خمسٍ وثلاثين سنة على نهاية الحرب، لم تستطع الدولة اللبنانية، بكل أحزابها وزعاماتها وسلطاتها التي التحقت جميعها بمظلة الحكم بعد الطائف، أن تكشف مصير مفقود واحد. هيئة رسمية شكّلوها بلا نتائج، لجان بلا صلاحيات، ومؤسسات بلا ضمير.

لقد بُني مجدُ هذا النظام على جماجم الفقراء المضللين، الشهداء والمفقودين والمشردين والمعاقين. الذين قاتلوا أو قُتلوا أو فُقدوا أو تعوّقوا. لم يبنوا وطناً، بل بنوا سلطةً لغيرهم. سلطةً استغلت دماءهم لتصعد إلى الحكم، ثم استغلت مواقعها لتنهب ما تبقّى من حياة الناس، حتى صار أبناء الشهداء والمفقودين أنفسهم ضحايا السرقة الجديدة: سرقة المصارف، سرقة ودائع الناس، سرقة أعمارهم، سرقة أحلامهم.

إنه النظام نفسه الذي تاجر بدماء الحرب استمر يتاجر لاحقاً بدموع السلم. الذين أقاموا جمهورياتهم على الخراب يواصلون الإذلال نفسه، لكن بلا رصاص هذه المرة… بل عبر المصارف، عبر تجويع الناس، عبر محو كرامتهم، وإفقارهم، ورهن البلد كله لمصالحهم الشخصية.

هذا هو لبنان الموجوع: بلد مات فيه الناس مرتين — مرة في الحرب… ومرة في السلم الذي يشبه الحرب أكثر من أي وقت مضى.

https://hura7.com/?p=49346

الأكثر قراءة