الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي
- “لا تبكوا وطناً حين تخونونه في صناديق الاقتراع… فالأوطان لا يحرسها الحنين بل الموقف.”
- “الذين يضيّعون أوطانهم خوفاً… يبكونها ذلّاً.”
- “الأوطان لا تضيع وحدها… بل يضيّعها من يعبد الزعيم أكثر من الوطن”.
كلّ يوم هو 13 نيسان… لأننا لم نطرد الحرب من بيوتنا.
في هذا البلد… الحرب لا تسكن في المتاحف. ولا تنام في أرشيف الصور القديمة. ولا تهجع في طيات الكتب المدرسية المحرفة.
الحرب في لبنان تتنقّل بينكم مثل لعنة قديمة، تطلّ برأسها كلّما ظننتم أنكم عبرتم الجسر بأمان. تأخذ شكل مصرف ينهب، أو زعيم يهدّد، أو حزب يبيع الكلام ويشتري الولاءات، أو طائفة تنحر جارتها باسم الله أو التاريخ أو الشرف.
كلّ يوم هو 13 نيسان جديد… كلّ يوم هو تاريخ يسقط فيه اللبناني في الحفرة نفسها، يبارك قاتله، ويصفّق لجلاده، ويقايض كرامته بربطة خبز أو كرتونة إعاشة أو بطاقة انتخابية مدفوعة الثمن.
هنا… في هذه البلاد، الحرب ليست حدثاً انتهى، بل نظام يقيم بين الناس، يأكل خبزهم، ويشرب ماءهم، ويتسلّل إلى أرواحهم كالدخان السامّ الذي لا يُرى ولا يُشمّ، لكنّه يخنقهم حتى الموت البطيء.
من توهّم يوماً أنّ الوصاية السورية كانت خطيئة عرضية، نسي أو تناسى أنّها لم تكن سوى التوكيل الأميركي العلني لحراسة الخراب اللبناني، كمن يوكّل الثعلبّ بحراسة حظيرة الدجاج.
ومن يظنّ اليوم أنّ الهيمنة الإيرانية أو الإسرائيلية أو الأميركية على القرار اللبناني أمر طارئ، فهو إمّا غبيّ أو متواطئ، لأنّ هذه الأرض تحكمها الوصايات منذ قرون، كونها تمتلك الكثير من الاغراء والجاذبية.
ليس للزمن سلطة على الحرب اللبنانية. هذه الحرب تحديداً لا تشيخ. لا تسقط بتقادم السنين. لا تتحوّل إلى ذكرى عابرة نُطويها بين صفحات التاريخ، ولا إلى مناسبة عاطفية نبكيها ونواصل المسير. الحرب في لبنان لم تنتهِ لكي نحتفل بذكراها، ولم تغادر بيوت الناس لكي نرفع فوق ركامها شعارات المصالحة والتسامح. الحرب هنا بقيت في الجدران، في اللغة، في الوعي، في تفاصيل الحياة اليومية. بقيت فوق رؤوسنا كظلّ طويل يتجوّل بين الأحياء، وبين الطوائف، وبين الساحات التي تفرّقت ولم تعد تلتقي إلّا على حافة الانهيار.
منذ خمسين عاماً، انطلق الرصاص الأول في 13 نيسان. لكنّ الرصاص الحقيقي لم يكن في الشارع وحده. الرصاص الأخطر كان في الجدران التي ارتفعت بين اللبنانيين، في الهويّات المتقابلة، في ذاكرة كلّ طرف، في السرديات المتناقضة، في الخوف الذي تكرّس كهوية مستدامة.
انتهت الحرب؟ هكذا يقولون. يقولونها بأناقة سياسية مدروسة، في المؤتمرات، في الندوات، في المعارض، على صدارة الصحف. لكن في العمق، نحن لم نخرج من الحرب. الذي انتهى هو القتال العلني، أما القتال الخفيّ فما زال يدير هذا البلد: قتال على الذاكرة، قتال على الحاضر، قتال على لقمة العيش، قتال على الحقوق، قتال على حدود الهوية الوطنية نفسها.
ما يسمّونه لبنان بعد الحرب، هو عملياً لبنان الذي صُمّم ليعيش حالة حرب باردة طويلة مع ذاته. اتفاق الطائف لم تتح له العصابة أن يكون نصّ سلام نهائي بقدر ما جعلته عقد إدارة للخراب القائم، وتوزيعاً منظّماً للسلطة بين القوى التي خاضت الحرب. لم يخرج لبنان من الحرب بل تحوّل إلى نموذج مثالي لنظام ما بعد الحرب: الطوائف كما هي، الزعامات كما هي، المصارف كما هي، ثقافة الولاء والانغلاق كما هي، والنظام السياسي مغلق على أيّ أفق تحوّلي حقيقي.
الدولة التي قامت على أنقاض الحرب لم تكن دولة مواطنين بل دولة محاصصة، ومزارع طوائف، وأسواق مغلقة للولاء والانتماء. هي دولة تأخذ شكل الدولة، وتلبس بذلتها الرسمية، لكنّها تخلو من المعنى الحقيقي للدولة: العدالة، المساواة، الحرّية، تكافؤ الفرص، الكرامة الإنسانية.
هنا في هذا البلد، كلّ شيء يحمل ملامح الحرب ولو تغيّرت أدواتها: السياسة امتداد للحرب؛ الاقتصاد امتداد للحرب؛ القضاء امتداد للحرب؛ الإعلام امتداد للحرب؛ والطوائف التي كانت وحدات قتالية في زمن السلاح، صارت وحدات اقتصادية في زمن الانهيار، ومربّعات أمنية في زمن الدولة المعلقة بين الحياة والموت.
لبنان بعد الحرب يشبه مدينة مسكونة بأشباحها. لا أحد يعرف تماماً من ربح الحرب ومن خسرها، لكنّ الجميع يعيش هزيمته اليومية الصامتة: هزيمة الفقراء في المصارف، هزيمة العائلات في الهجرة، هزيمة الشباب في العطالة والتيه، هزيمة المدن في تهديم ذاكرتها، وهزيمة القرى في عزلة خرساء بين الجبل والساحل وبين الداخل والخارج.
في هذا البلد، لا يمرّ يوم من دون أن نشعر أنّ الحرب مستمرّة: في شكل أزمة اقتصادية، في شكل انقسام طائفي، في شكل إعلام يكذب ويضلل، في شكل سلاح متفلّت، في شكل زعامة لا تموت، في شكل طبقة سياسية تتوالد من رماد الخراب.
بعد خمسين سنة على الحرب، لم يتحرّر اللبناني من سؤاله الأول: من نحن؟ من يحكم هذا البلد؟ بأيّ شرعية؟ بأيّ أخلاق؟ بأيّ حقّ يستمرّ اللصوص في سرقة الدولة؟ وبأيّ خجل يطالبون الناس بالصمت وهم من صادروا حقوقهم وذاكرتهم وأموالهم وأحلامهم؟
لا شيء تغيّر فعلاً في جوهر هذا البلد سوى أنّ الحرب صارت أكثر تعقيداً، أكثر تقنية، أكثر اقتصاداً، أكثر خبثاً في أدواتها. صارت الحرب تُدار بأرباح المصارف لا بأرباح السلاح. تُدار بالتحاصص الوزاري لا بخطوط النار. تُدار بمصرفيين ينهبون تعب العمر، وبإعلاميين يجمّلون وجوه الخراب.
ومع ذلك، رغم كلّ الخيبات المتكرّرة، ورغم أنّنا في كلّ استحقاق سياسي أو انتخابي نكاد نكرّر التجربة نفسها، ما زلنا لم نعتد هذا الخراب، وما زلنا نرتجف من خيبة جديدة، كما لو أنّنا نعيشها للمرّة الأولى.
اللبناني يرفض أن يتعوّد على المهانة. يرفض أن يسلّم بأنّ بلده قدره ملعون. يرفض أن تكون الهزيمة طبيعية، وأنّ الذلّ جزء من المواطنة.
ربما لهذا السبب تحديداً، رغم كلّ شيء، نقول إنّ لبنان بلد لا يموت. ليس لأنّه معجزة بل لأنّ أهله، رغم سقوطهم، رغم جراحهم، رغم يأسهم، لم يسلّموا بعد بالهزيمة الكاملة.
كلّ يوم هو 13 نيسان في هذا البلد. كلّ يوم هو بداية جديدة لحرب لم تضع أوزارها. لكن كلّ يوم أيضاً، هو فرصة جديدة للخروج من هذه الحرب.
فرصة أن نقرّر بأنّ هذا البلد يستحقّ أن يكون وطناً لا ساحة قتال.
فرصة لأن نرى أنفسنا خارج القطيع، خارج الطائفة، خارج الخوف، خارج الأسوار العالية التي بُنيت حول وعينا وقلوبنا.
الحرب تنتهي حين نقرّر نحن أن تنتهي… لا حين يعلنها المنتصرون في المؤتمرات الصحفية. وإلى ذلك الحين… كلّ يوم هو 13 نيسان جديد.
كلّ يوم هو 13 نيسان… ليس لأنّ الحرب لا تنتهي، بل لأنّنا لم نسمح لها أن تنتهي في عقولنا وبيوتنا وأسلوب حياتنا. نعيش بين الركام… لكننا لسنا من الركام؛ نتألّم من هذا الوطن… لكننا لا نتخلّى عنه؛ ننزف من الخيبات المتكرّرة… لكنّنا لم نعتدها بعد، ولن نعتادها.
هنا… في هذا البلد المعلّق بين جراحه وأحلامه، الخروج من الحرب ليس معركة سلاح… بل معركة وعي. إمّا أن نعيش بشرف فوق هذه الأرض، وإمّا أن لا نعيش. لكن الرهان الحقيقي دوماً كان ولا يزال على الناس أنفسهم. على وعيهم. على جرأتهم في أن يقطعوا حبال السُّرّة. أن يعودوا إلى أنفسهم. أن يتحرّروا من فكرة أنّ مصيرهم مربوط بزعيم طائفي لا يملك سوى الوعد الكاذب والفتات.
هذا الوطن لا يستحقّ أن يكون ساحة مبارزة بين اللصوص والمجرمين والكاذبين. هذا الوطن يستحقّ أن يكون ككلّ الأوطان: دولة مؤسسات، دولة عدالة، دولة قانون، دولة كرامة. ولن تكون هذه الدولة إلا إذا قرّر الناس أنفسهم أن يتولّوا زمام أمرهم بأيديهم، أن ينزلوا إلى صناديق الاقتراع وهم يعرفون أنّ معركتهم مع ماضيهم لا مع غيرهم، أنّ معركتهم مع ذاكرتهم المستلبة لا مع جيرانهم.
كفاكم تصديق روايات المجرمين. كفاكم قبول روايات المنظومة. كفاكم توقّع المعجزات من حفنة لصوص لم يعرفوا سوى كيف ينهبون وطنكم وكرامتكم.
كلّ يوم هو 13 نيسان جديد. وسيبقى كذلك ما دمتم تأكلون من يد جلاديكم.
وسيبقى كذلك ما دمتم تنتظرون كلمة سرّ من خارجكم.
القرار قراركم. الوطن وطنكم. المستقبل لأولادكم. إمّا أن تكونوا أحراراً وإمّا أن تبقوا عبيداً على عتبات مقابر الحرب الأهلية المستمرّة بلا مدافع، لكن بألف سكين في الظهر… كلّ يوم.