الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي
نحن أحياءٌ لا نعيش، مواطنون مسجونون في مساحات جغرافية نسمّيها أوطانًا، لا نملك حق العيش فيها كأفراد أحرار. أربعون عامًا ولبنان محكوم بممانعة زادت مأساته، جعلته رهينةً لفائض من العدمية والتوتر الدائم، لم تكتب سوى وعود مغرية، ساعية إلى شطب تاريخ سواها الذي لا يتوافق مع سرديتها، معيدةً إنتاج ذاتها مرارًا وتكرارًا، كأنها الحقيقة الوحيدة، وكأن لا حياة للبنانيين خارج أسوار مشروعها.
كلما حاول اللبنانيون امتصاص الصدمات التي تنتجها هذه الأيديولوجيا المتصلبة، كلما زادت الهجمات عليهم. لا يمكن للحكومة إرضاء من لا يريد شيئًا سوى تأبيد الصراع، ولا يمكنها بناء اقتصاد أو إنقاذ مالية الدولة أو تحقيق استقرار سياسي، لأن كل ذلك يتناقض مع فلسفة “التوتر المستمر” التي تتبناها الممانعة العابرة للحدود. هذا التيار لا يعيش إلا بالتوتر، ولا ينمو إلا بالعدمية، ولا يزدهر إلا حيث تنتشر ثقافة الموت. لذا، حتى حين تسير الحكومة في اتجاه تقديم التنازلات، يبقى الهجوم عليها شرسًا. ما المطلوب منها إذًا؟ ألّا تكون موجودة؟ أن تكون مجرد أداة طيعة؟ أم أن يتم تفكيكها بالكامل ليحل محلها الفراغ؟
مؤخرًا، تناول رئيس تحرير صحيفة ممانعة العلاقة بين رئيسي الجمهورية والحكومة، في محاولة لزرع بذور الشقاق بينهما، والتأكيد على أن أي محاولة لبناء توازن سياسي خارج ثوابت “الممانعة” ستُحارب حتى يتم تدميرها أو احتواؤها بالكامل. ليس مستغربًا أن تكون قدرة الحكومة محدودة على اتخاذ قرارات سيادية حقيقية، لأن كل خطوة تقوم بها يجب أن تمر عبر فلتر الممانعين، الذين لا يهمهم إصلاح الاقتصاد أو بناء الدولة، بل فقط الاستمرار في التحكم بمساراتها وفقًا لأجندتهم الخاصة.
الممانعة ليست فقط مشروعًا سياسيًا، بل أيضًا نمط حياة، ثقافة، حالة ذهنية. هي منظومة لا ترى سوى الصراع، ولا تتنفس إلا داخل معادلة “نحن ضدهم”. لا اقتصاد، لا استقرار، لا قانون، لا رؤية للمستقبل، فقط معركة دائمة لا تنتهي، لأن نهايتها تعني سقوط المشروع كله. لا تؤمن بالدولة، بل تعتبرها مجرد أداة يجب ترويضها أو تحطيمها إن خرجت عن المسار المحدد لها. المواطن في هذا السياق ليس فردًا، بل وقود لهذه الماكينة، مجرد رقم في معركة بلا نهاية، خاضع لخطاب سياسي جامد، لا يسمح له بأن يعيش حياته، بل يطالبه دائمًا بأن يكون مستعدًا للموت من أجل القضية. لكن أي قضية؟ وما نهايتها؟ وهل تنتهي أصلاً؟
إسرائيل، العدو الذي يُقدَّم على أنه الخطر الدائم، أصبحت حاجة لا يمكن الاستغناء عنها في خطاب الممانعة. بقاء هذا العدو هو ما يسمح لهذه الفكرة بالبقاء، هو ما يعطي المبرر لقمع الداخل، لإخراس الأصوات المختلفة، لتحويل لبنان إلى ساحة معركة دائمة باسم “التحرير” الذي لا يأتي، بل يتم تأجيله إلى أجل غير مسمى. وإذا ما غاب العدو، يتم اختراع أعداء آخرين: العملاء، المتخاذلون، الطابور الخامس، المتآمرون، حتى تصبح كل معارضة داخلية خيانة، وكل رأي مخالف جريمة.
لم يكن المشهد الذي رافق جولة رئيس الحكومة نواف سلام في الجنوب سوى دليل إضافي على هذه الذهنية المتناقضة. تم التصدي له بعبارات تشكك في شرعيته السياسية، وكأنه زائر غريب على أرض بلاده، وليس رئيسًا للحكومة اللبنانية. قيل له إنه لم يكن ليتمكن من زيارة الجنوب لولا “المقاومة”، وكأن الزيارة إلى أراضٍ لبنانية محكومة بمنح إذن خاص، لا باعتبارها حقًا طبيعيًا لمسؤول في الدولة. المفارقة الكبرى أن الذين احتجوا عليه لم يدركوا أن الاحتلال الذي يدّعون أنهم يحمونه منه، لم يكن ليقع أصلاً لولا الرعونة التي جعلت لبنان في مواجهة دائمة لا متكافئة، وأدخلته في مغامرات عسكرية لم يكن مؤهلاً لها، وجعلته ساحة مفتوحة لكل أشكال التدخلات الخارجية.
الجنوب، كما كل لبنان، ليس ساحة حصرية لأي فئة أو حزب، بل هو جزء من الوطن الذي يدّعون الدفاع عنه، لكنه في الواقع يُستخدم كرهينة سياسية، وكخط دفاع متقدم في معركة أكبر من لبنان نفسه. الحقيقة أن الممانعين الذين يُنكرون هذا الواقع يرفضون الاعتراف بأن سلوكهم هو الذي أبقى الاحتلال ممكنًا، وهو الذي سمح بتحويل لبنان إلى ورقة تفاوض إقليمية ودولية، تُستَخدم عند الحاجة وتُهمَل حين تنتفي ضرورتها.
في هذه البيئة، يصبح كل شيء مشروعًا: الضغط على الحكومة، تعطيل الإصلاحات، مهاجمة من يحاول بناء الدولة، وحتى شيطنة كل من يفكر خارج إطار الممانعة. لأن الفكرة ليست المقاومة بحد ذاتها، بل تحويلها إلى أداة دائمة للسيطرة السياسية. تمارس الممانعة الإنكار في كل مرة تقع فيها الكارثة. حينما تنفجر الأزمات، لا تتحمل المسؤولية، بل تسارع إلى توجيه أصابع الاتهام إلى الآخرين: الحكومة، الغرب، القوى الداخلية “الخائنة”. دائمًا هناك عدو داخلي يُلام، ودائمًا هناك طرف آخر عليه أن يتحمل التبعات.
لذلك تجد الحكومة نفسها مطالبة بترميم الفوضى التي تنتجها الممانعة، لكنها في المقابل تُهاجَم بلا هوادة، وكأن المطلوب منها أن تتحمل نتائج الفشل دون أن يكون لها الحق في إدارة الدولة بشكل مستقل. المفارقة الكبرى أن الممانعة ليست مجرد قوة معارضة للحكومة، بل هي جزء منها، بل وأحيانًا صانعتها، لكنها لا تعترف بذلك. هي تهاجم الحكومة علنًا، لكنها تستفيد من وجودها عمليًا. تريد أن تكون في السلطة، لكنها تتصرف كأنها في المعارضة. تتحكم في الدولة، لكنها تتهمها بالتقصير.
وهكذا، تعيش الحكومة في حالة دائمة من الانفصام، لا هي قادرة على فرض سياساتها، ولا هي قادرة على تلبية مطالب الذين يتحكمون بها فعليًا. اللبنانيون أسرى هذه المنظومة، لا هم قادرون على العيش بكرامة، ولا هم قادرون على تغيير الواقع. يعيشون في وطن، لكنهم لا يملكونه. يتحركون داخل بلدهم، لكنهم لا يستطيعون أن يكونوا مواطنين أحرارًا. يخوضون انتخابات، لكن النتيجة دائمًا محسومة لصالح ذات القوى التي تعيد إنتاج نفسها بلا نهاية.
الإنكار ليس مجرد تكتيك سياسي، بل هو نمط تفكير مترسخ، وهو الذي يجعل هذه القوى نفسها ترفض تحمّل مسؤولية نتائج أفعالها. حين ينهار الاقتصاد، يتم تحميل الحكومة المسؤولية، رغم أن الهيمنة السياسية والعسكرية هي التي تمنع أي إصلاح حقيقي. حين يتم توقيع اتفاقات دولية، يتم التنديد بها باعتبارها “تنازلات”، رغم أن الذين يهاجمونها هم أنفسهم الذين أداروا البلد لعقود، ولم يقدموا أي بدائل سوى المزيد من التدهور. حين تخرج الدولة عن مسارها، يُقال إن السبب هو التدخلات الخارجية، رغم أن التدخل الأكبر يأتي من الذين يحتكرون قرار لبنان ويربطونه بصراعات لا علاقة له بها.
ما يحدث ليس مجرد صراع سياسي بين الحكومة وخصومها، بل هو امتداد لنموذج فكري يقوم على احتكار الشرعية. هناك من يرى أن لبنان يجب أن يكون خاضعًا لمنطق القوة، لا لمنطق المؤسسات، وأن الدولة لا تستحق أن تكون صاحبة القرار، لأن القرار الحقيقي يجب أن يكون بيد من “يمتلكون” القوة العسكرية والإيديولوجية. هذه الفكرة تكرست عبر عقود من تحويل المقاومة من مشروع تحرري إلى مشروع سلطوي، لم يعد همه تحرير الأراضي المحتلة، بل تكريس وضع داخلي يسمح له بالتحكم بمفاصل الدولة وتوجيه سياساتها وفقًا لمصالح خارجية.
إلى متى؟ إلى متى سيظل اللبنانيون محكومين بمعادلات لا تخصهم، وبصراعات لا تخدمهم، وبمقاومة لا تحررهم بل تأسرهم داخل دائرة مغلقة من الإنكار والعدمية والتدمير الذاتي؟ هل يمكن للبنان أن يكون وطنًا يومًا ما، أم أنه سيظل ساحة معركة إلى الأبد؟