الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي
- “عند الامتحان يكرّم المرء أو يهان”
- “المياه تكذّب الغطاس”
هل نحن بخير؟ هذا هو السؤال الذي يتردد في أذهان اللبنانيين منذ الإعلان عن تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة نواف سلام. بين نصف الرضا ونصف القلق، بين التفاؤل الحذر والخشية من التجربة المتكررة، يقف لبنان حائرًا بين ما يعرفه وما لم يجرّبه بعد. مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة، لكن الاتجاه الذي تسير نحوه هذه الخطوة يبقى موضع تساؤل.
كما أن الإجابة على هذا السؤال، في لبنان، ليست يومًا بالإيجاب أو السلب المطلقين، بل هي خليط من الرضا المشوب بالحذر، والتفاؤل المقيّد بالقلق. المشهد الحالي لا يخرج عن هذه المعادلة المتكررة، فمع الإعلان عن تشكيل الحكومة الجديدة تنفّس البعض الصعداء، واعتبر آخرون أن الولادة لم تكن سوى تأجيل للمشكلة بدلًا من حلّها. وبين من يقول إن الخطوة الأولى في الألف ميل قد اتخذت، ومن يراها مجرّد خطوة في دائرة مفرغة، يبقى لبنان عاجزًا عن تحمّل المزيد من التجارب الفاشلة والرهانات الخاطئة.
على امتداد أسابيع، عاشت البلاد على وقع التجاذبات السياسية والمفاوضات العقيمة، حيث لم يكن تشكيل الحكومة مجرد مسألة توزيع حقائب بقدر ما كان معركة نفوذ كشفت، مجددًا، أن القوى التقليدية التي أوصلت البلاد إلى الانهيار تسابقت إلى ورشة الإنقاذ وهي التي لا تزال متمسكة بأدوات التحكم والتعطيل، مستعدة لخوض أي مواجهة للحفاظ على مواقعها. كان واضحًا منذ البداية أن ولادة الحكومة لن تكون يسيرة، وأن مراكز القوى لن تتخلى عن حصصها بسهولة، بدءًا من تمسك الثنائي بالثلث المعطل، وهو الأداة الأنجع لابتزاز السلطة التنفيذية، وصولًا إلى محاولات فرض التوازنات الداخلية والخارجية عبر استنساخ نهج المحاصصة الطائفية بوجوه جديدة. ومع ذلك، ولدت الحكومة، لكن لا شيء يشير إلى أنها ستكون قادرة على العمل دون عراقيل، أو أنها لن تتحول سريعًا إلى رهينة الحسابات الإقليمية والتجاذبات الداخلية التي تفننت الطبقة الحاكمة في استخدامها على مدى عقود. هل يمكن لمن أفسد دهرًا أن يكون هو من يبني؟ أو أن يكون الهدّام هو نفسه البنّاء، ولو متنكّرًا؟
المشكلة في لبنان لم تكن يومًا في الحكومات وحدها، بل في النظام السياسي الذي جعل من الطائفية سلاحًا لحماية الفساد، ومن الزبائنية وسيلة لشراء الولاءات ومن الدين قيّمًا على السلطة. هذا النظام الذي يحكم البلاد منذ عقود لم يتغير، وهو اليوم يواجه حكومة تتحدث عن الإصلاح فيما المؤسسات مشلولة، والإدارة العامة منهوبة، والاقتصاد على شفا انهيار شامل. الحديث عن الإصلاحات المالية والاقتصادية يبدو أقرب إلى التمنيات منه إلى خطة واقعية، فالدولة، كما هي اليوم، غير قادرة على إقرار موازنة واضحة، ولا على تنفيذ أي إصلاح مصرفي يعيد أموال المودعين المنهوبة، ولا حتى على استعادة الثقة الدولية التي باتت مشروطة بخطوات جذرية قد لا تكون هذه الحكومة قادرة على اتخاذها، خاصة أن هناك من يعمل من الداخل والخارج على إبقاء لبنان في حالة “اللاقرار”، حيث لا انهيار كامل يفرض تغييرًا جذريًا، ولا إصلاحات حقيقية تكسر الحلقة المفرغة.
أكثر الملفات حساسية في أجندة الحكومة الجديدة يظل تنفيذ القرار 1701، الذي ينص على نزع سلاح الميليشيات غير الشرعية وبسط سلطة الجيش اللبناني على كامل الأراضي اللبنانية. هذا البند، الذي ظل مجمّدًا في الأدراج منذ صدوره، هو اليوم حجر الزاوية في أي حديث عن استعادة الدولة لسلطتها، لكنه في الوقت ذاته الملف الأكثر إرباكًا لحكومة يقودها رجل محسوب على نهج المؤسسات والقانون، لكنه يواجه واقعًا يفرض معادلات أبعد ما تكون عن سيادة الدولة. في ظل هذا المشهد، يصبح تنفيذ القرار 1701 أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى، خصوصًا مع التصعيد الإسرائيلي المتكرر، والمواجهات الحدودية المتزايدة، والتوترات الداخلية التي قد تنفجر في أي لحظة، سواء في البقاع، حيث الاشتباكات بين العشائر وهيئة تحرير الشام تزداد خطورة، أو في الجنوب، حيث أي مواجهة جديدة قد تفرض تعديلًا أكثر إذعانًا وتقلب المعادلات رأسًا على عقب.
التحدي الآخر الذي لا يقل خطورة عن الأمن والاقتصاد، هو ملف الانتخابات البلدية والنيابية، والذي يفترض أن يكون اختبارًا لمصداقية الحكومة في تأمين استحقاقات ديمقراطية نزيهة بعيدًا عن التسويف والتأجيل المعتادين. هذه الانتخابات، إذا أجريت كما ينبغي، قد تعيد تشكيل المشهد السياسي وتفتح المجال أمام تجديد الطبقة السياسية، لكنها في المقابل تشكل تهديدًا للمنظومة الحاكمة التي تعي جيدًا أن أي عملية انتخابية شفافة قد تفقدها جزءًا من سيطرتها على مفاصل الدولة. من هنا، ستسعى القوى التقليدية إلى تعطيل هذا الاستحقاق بشتى الوسائل، سواء عبر افتعال أزمات سياسية، أو التذرع بالوضع الأمني، أو حتى استخدام القضاء كأداة لإقصاء المنافسين الجدد.
رئيس الحكومة نواف سلام، في أول خطاب له بعد إعلان الحكومة، لم يخفِ حجم التحديات، لكنه شدّد على أن الإصلاح ليس شعارًا، بل هو المسار الوحيد للخلاص الوطني. أكّد أن إعادة بناء الثقة بين الدولة والمواطنين، وبين لبنان ومحيطه العربي والمجتمع الدولي، لن تكون ممكنة دون إصلاح القضاء وضمان استقلاليته، واستكمال تنفيذ اتفاق الطائف، وتعزيز اللامركزية الإدارية، وضبط الفساد. لكن بين تصريحاته وممارسات سواه، قد تتظهر فجوة شاسعة، لا يمكن ردمها دون إرادة سياسية حقيقية، وهي الإرادة التي غابت عن الحكومات السابقة وجعلت من أي إصلاح مجرد محاولة للالتفاف على المشكلة بدلًا من حلّها.
التحديات الاقتصادية والأمنية والسياسية التي تواجه لبنان اليوم ليست مجرد عقبات مؤقتة، بل هي نتيجة تراكمات نظام قائم على المصالح الفئوية، حيث تحولت الدولة إلى غنيمة تتقاسمها القوى السياسية، واستُخدمت المؤسسات لخدمة مشروع الفساد بدلًا من خدمة الشعب. في ظل هذا الواقع، تصبح أي محاولة للتغيير مسألة معقدة، حيث لا يكفي تغيير الأشخاص، بل يجب تفكيك المنظومة التي أوصلت البلاد إلى حافة الانهيار. اللبنانيون، الذين اختبروا الوعود الكاذبة لسنوات، لم يعودوا يثقون بالكلام وحده، بل يحتاجون إلى أفعال حقيقية تثبت أن هذه الحكومة ليست مجرد نسخة جديدة من الحكومات السابقة.
الرهان اليوم ليس على قدرة الحكومة وحدها، بل على قدرة المجتمع على الضغط لمنع العودة إلى الوراء، وعلى وعي القوى التغييرية بضرورة استغلال هذه اللحظة لفرض قواعد جديدة للعبة السياسية. فالخصوم السياسيون ينتظرون الفرصة لإفشال الحكومة، والملفات الشائكة لا تحتمل التردد أو الحلول الوسط. إذا استطاعت الحكومة تحقيق الحد الأدنى من الإصلاحات، فقد تفتح الباب أمام مرحلة جديدة، أما إذا سقطت في فخ المحاصصة والتسويات الضيقة، فسيكون ذلك بمثابة إعادة إنتاج للأزمة، وإهدار لفرصة قد لا تتكرر قريبًا.
لبنان اليوم أمام خيارين: إما أن تكون هذه الحكومة بداية لمسار جديد يخرج البلاد من نفق الانهيار، أو أن تتحول إلى مجرد محطة أخرى في سلسلة الحكومات التي عجزت عن إحداث أي تغيير حقيقي. في النهاية، التغيير ليس شعارًا، بل قرار يحتاج إلى شجاعة سياسية، فهل تملك هذه الحكومة الجرأة على اتخاذه؟
الكل ينتظر البيان الوزاري ومدى الالتزام بتنفيذه خاصة أن معظم أسماء الوزراء مجهولة من العامة، وهل ستكون هذه الحكومة قادرة على كسر حلقة التعطيل السياسي والابتزاز الطائفي التي أدخلت لبنان في حالة من الشلل المؤسساتي؟ المؤشرات الأولية توحي بأن الحكومة ستواجه معركة قاسية داخليًا وخارجيًا، فالخصوم ينتظرون الفرصة لإفشالها، والملفات الشائكة لا تحتمل التردد أو التأجيل. إذا استطاعت هذه الحكومة تحقيق الحد الأدنى من الإصلاحات، فستكون قد وضعت حجر الأساس لمسار جديد يعيد للبنان موقعه الطبيعي كدولة ذات سيادة، أما إذا سقطت في فخ المحاصصة والتسويات الضيقة، فسيكون ذلك بمثابة تكرار لسيناريو الفشل وإهدار جديد للفرص التي قد لا تتكرر قريبًا.
للتواصل مع كاتب المقال: osmatbachir@outlook.com