الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي
- إبن خلدون: “الدولة هي الحصن الأخير للمواطن، فإن انهارت، تحوّل الجميع إلى فريسة.”
- شكسبير: “لن تجد في العالم من يمدّ إليك يد العون، إن لم تمدّها لنفسك أولًا.”
- محمود درويش: “الوطن ليس فندقًا نغادره عندما تسوء الخدمة، بل هو البيت الذي لا يُستبدل.”
تعيش الدولة اللبنانية أزمة متعددة الأبعاد، حيث تتشابك تعقيدات السياسة الداخلية مع التحديات الإقليمية، في ظل استمرار الضغوط الدولية التي تحاول فرض توازن جديد في المشهد اللبناني. لا يبدو أن وقف إطلاق النار الأخير بين حزب الله وإسرائيل قد أسس لأي استقرار حقيقي، بل يظهر كمرحلة تكتيكية لإعادة ترتيب المعادلات القائمة، حيث تستغل كل الأطراف هذه التهدئة لترتيب أوراقها، في حين تبقى الدولة اللبنانية عاجزة عن التأثير في أي من هذه المسارات. وفي الوقت الذي تشهد فيه الساحة السياسية محاولات تشكيل حكومة العهد الأولى و تأخرها، يعود الجدل حول مدى قدرة لبنان على إنتاج قيادة قادرة على مواجهة هذه التحديات، أو أنه سيظل أسير الحسابات الإقليمية والدولية التي تتحكم بمستقبله.
اتفاق وقف إطلاق النار: بين الضرورة العسكرية والتفاهمات السياسية
لم يكن اتفاق وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل مجرّد خطوة لوقف التصعيد العسكري، بل كان انعكاسًا لضغوط إقليمية ودولية تحاول إعادة رسم معادلات النفوذ في المنطقة. فالضغوط الأميركية والفرنسية، التي لعبت دورًا أساسيًا في صياغة الاتفاق، لم تكن بهدف تثبيت الأمن، بقدر ما كانت تسعى إلى فرض توازنات جديدة على الأرض، بما يحدّ من قدرة حزب الله على المناورة مستقبلًا. ورغم أن الحزب حاول تصوير الاتفاق على أنه انتصار استراتيجي، فإن الوقائع تشير إلى أن إسرائيل حصلت على ضمانات أمنية تتيح لها الاستمرار في انتهاكاتها، ضمن إطار لا يحمّلها كلفة تصعيد واسع.
غياب الشفافية عن مضمون الاتفاق يثير تساؤلات حول البنود غير المعلنة التي قد تحمل تداعيات طويلة الأمد على السيادة اللبنانية. فهل يتضمن الاتفاق ترتيبات جديدة بشأن الحدود البحرية؟ هل يشمل تعهدات أمنية ما غير معلنة في جنوب الليطاني؟ هل هناك وعود بزيادة نفوذ القوات الدولية (اليونيفيل) على حساب الجيش اللبناني؟ هذه التساؤلات تبقى بلا إجابات واضحة، مما يعكس واقع الدولة اللبنانية كمجرد طرف مهمّش في عملية رسم مستقبلها السياسي والأمني.
إسرائيل: إدارة النزاع من خلال التصعيد المتقطع
لم تغيّر إسرائيل استراتيجيتها التقليدية تجاه لبنان، حيث ما زالت تعتمد سياسة “إدارة النزاع” بدلًا من الحسم العسكري الشامل. من خلال استمرار الطلعات الجوية، وتنفيذ عمليات قصف محدودة، والتوغل الاستخباراتي، تحاول تل أبيب فرض واقع أمني يبقي لبنان تحت الضغط دون أن تنخرط في حرب شاملة قد تكون لها تداعيات غير محسوبة. هذا النهج يؤكد أن إسرائيل تستخدم وقف إطلاق النار كمرحلة مؤقتة لتحقيق مكاسب إستراتيجية، وليس كمقدمة لتسوية مستدامة.
في المقابل، تراهن إسرائيل على التحولات الداخلية اللبنانية، حيث تسعى إلى تحويل حزب الله من “قوة مقاومة” إلى “عبء أمني واقتصادي”، عبر استثمار السخط الشعبي في الجنوب، وتصاعد الأزمة الاقتصادية، وارتفاع كلفة أي مواجهة مستقبلية على الحزب. هذه الاستراتيجية تهدف إلى استنزاف الحزب سياسيًا داخليًا، دون الحاجة إلى مغامرات عسكرية كبرى قد تؤدي إلى نتائج غير مضمونة.
حزب الله: بين خطاب المقاومة والواقع المتغير
لطالما اعتمد حزب الله على معادلة الردع كأداة لحماية نفوذه العسكري والسياسي، إلّا أن التطورات الأخيرة أظهرت أن الحزب لم يعد يتمتع بنفس حرية الحركة التي كانت له سابقًا. التصعيد الأخير كشف عن تحديات متعددة، سواء على المستوى العسكري، حيث بات الحزب أكثر انكشافًا أمام الضربات الإسرائيلية، أو على المستوى الداخلي، حيث تزايدت الضغوط الاقتصادية والسياسية عليه.
التراجع التكتيكي في بعض المواقع الاستراتيجية، والخسائر البشرية والمادية، والتضييق المتزايد على هامش تحركاته، كلها عوامل تعكس تحولًا في ميزان القوى. رغم استمرار الحزب في تقديم نفسه كقوة ميدانية قادرة على فرض معادلات اشتباك جديدة، فإن الواقع يشير إلى أن قدرته على المناورة أصبحت مقيّدة أكثر من أي وقت مضى. وبينما يحرص الحزب على الحفاظ على خطابه المقاوم، فإنه يدرك أن أي تصعيد جديد قد تكون تكلفته باهظة وذريعة لتكثيف الاعتداءات واتهام لبنان بعدم تنفيذ التزاماته حسب الاتفاق، في وقت يعاني فيه الأخير من انهيار اقتصادي وسياسي شامل.
الحكومة اللبنانية: غائبة؟
في خضم هذه التحديات، تبدو حكومة تصريف الاعمال اللبنانية مجرّد متفرّج على الأحداث، غير قادرة على التأثير في مسار التطورات الإقليمية أو حتى فرض أجندة سياسية داخلية واضحة. وفي نفس الوقت تكشف مشاورات تشكيل الحكومة الجديدة عن أزمة أعمق في بنية الدولة اللبنانية، حيث باتت السلطة التنفيذية غير قادرة على لعب أي دور فاعل، لا في صياغة رؤية استراتيجية للمرحلة المقبلة، ولا في ضمان تطبيق قرارات سيادية حقيقية.
النقاش الذي أثير بالأمس و نقلته وسائل التواصل الاجتماعي حول طبيعة الوزراء الجدد، والنقل عن لسان الرئيس عون وعن الرئيس المكلّف سلام تركيزهما على المعايير الأكاديمية في اختيارهما للوزراء، إلى جانب معايير الكفاءة والخبرة، يعكس استمرار نهج “النخبوية المغلقة” التي تحكم العقلية السياسية اللبنانية التي سادت عقودًا. فالحديث عن ضرورة أن يكون الوزراء خريجي جامعات كبرى كالأميركية واليسوعية والجامعات الغربية المرموقة يعكس اتجاهًا لإعادة إنتاج السلطة على أسس طبقية، بدلًا من التركيز على معايير الأداء الفعلي والكفاءة الإدارية. في وقت يواجه فيه لبنان أزمات وجودية، تبدو هذه الأولويات وكأنها استمرار لنهج الإقصاء وتجاهل الكفاءات الوطنية التي لم تنتمِ إلى دوائر النفوذ التقليدية. وفي حال كان ذلك من قبيل الدس على التشكيل فعلى القيادة الجديدة نفي ذلك لما فيه من إقصاء مجحف.
السيناريوهات المقبلة: خيارات لبنان بين الصدام والتسوية
مع استمرار الغموض حول مصير الاتفاق الأمني الحالي، يمكن توقع ثلاثة سيناريوهات رئيسية للمستقبل:
- تحويل الهدنة إلى اتفاق دائم: في هذا السيناريو، يتم التوصل إلى تفاهمات برعاية دولية تفرض قيودًا جديدة على حزب الله، وتفتح الباب أمام استثمارات خارجية مشروطة بإجراءات أمنية معينة.
- عودة التصعيد العسكري: إذا استمرت إسرائيل في تنفيذ عمليات استفزازية، أو إذا قرر حزب الله الردّ بقوة، فقد يعود التصعيد العسكري إلى الواجهة، ولكن هذه المرة في سياق أكثر خطورة، نظرًا للمتغيرات الإقليمية والدولية.
- إعادة تموضع داخلي لحزب الله: قد يلجأ الحزب إلى تقليص وجوده العسكري جنوب الليطاني، والتركيز على دوره السياسي والاجتماعي، لضمان استمرارية نفوذه الداخلي دون الحاجة إلى مواجهة مفتوحة.
نحو رؤية وطنية جامعة: هل يمكن استعادة القرار اللبناني؟
ما يحتاجه لبنان اليوم ليس مجرّد معالجة آنية للأزمات الأمنية، بل إعادة تعريف للدولة ودورها، بحيث لا تبقى رهينة للصراعات الإقليمية والتجاذبات الداخلية. ما لم تشكّل الحكومة الجديدة بفترة زمنية مقبولة وتقوم بوضع خطة استراتيجية واضحة تعيد الاعتبار للدولة كجهة قادرة على اتخاذ القرارات السيادية، فإن لبنان سيظل أسير التوازنات الخارجية والضغوط المتزايدة.
الحل لا يكمن في اختيار وزراء يحملون شهادات من جامعات مرموقة، بل في اختيار شخصيات تمتلك القدرة على وضع سياسات فاعلة لإعادة بناء الاقتصاد، وإصلاح المؤسسات، واستعادة ثقة المواطنين لتبني وطنية لبنانية متجددة. أما حزب الله، فهو أمام لحظة مفصلية، حيث عليه أن يحدد مستقبله السياسي والعسكري ضمن إطار الدولة، بدلًا من الاستمرار في لعبة التوازنات التي لم تعد تخدم أحدًا.
لبنان أمام لحظة تاريخية حاسمة، حيث لم يعد بإمكانه تأجيل المواجهة مع الواقع. إن وقف إطلاق النار قد يكون مجرد مرحلة مؤقتة، لكنه لا يقدّم أي حلول حقيقية للأزمة العميقة التي يعيشها البلد. فبين الضغوط الخارجية والشلل الداخلي، يبقى مستقبل لبنان معلقًا بين خيارات غير محسومة، فإما أن يقرر استعادة قراره الوطني، أو أن يستمر كمساحة نفوذ خاضعة للإملاءات الإقليمية والدولية.
على القيادة السياسية أن تختار بين الوضوح والشفافية، أو الاستمرار في سياسة الغموض والتردد، مما قد يؤدي إلى موجة جديدة من الاحتقان الشعبي والانقسامات الداخلية، تجعل أي إصلاح حقيقي أكثر صعوبة من أي وقت مضى.
للتواصل مع كاتب المقال: osmatbachir@outlook.com