الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي
- توماس هوبز: “الدولة القوية تنشأ من عقد اجتماعي يلتزم فيه الجميع بالتخلي عن جزء من حريتهم لصالح الأمان المشترك.”
- أفلاطون: “الدولة هي أكبر من مجرد مجموعة من الأفراد، إنها كيان روحي يعبّر عن العدالة.”
- كونفوشيوس: “الحاكم الجيد هو الذي يتصرف كقدوة، فيجعل شعبه يقتدي به دون إكراه.”
لا شك في حساسية الوضع اللبناني الراهن الذي يتطلب، إلى جانب التأنّي والحكمة، قرارات حاسمة وشجاعة لإنقاذ البلاد من أزماتها المتراكمة. بعد سنوات من الفساد، الانقسامات، والإهمال، تلوح في الأفق فرصة نادرة لتغيير المسار، خاصة مع قيادة جديدة من نوع مختلف. ومع ذلك، فإن النجاح في هذا المسار يتطلب مقاربة مختلفة، تتجاوز التقاليد السياسية غير المجدية التي أعاقت تطور الدولة لعقود.
حكومة تعكس الروح الجديدة
التأخير في تشكيل الحكومات أصبح جزءاً من تقاليد السياسة اللبنانية، لكنه تقليد يجب أن يصبح من الماضي. لبنان اليوم لا يملك رفاهية الانتظار، ولا يمكنه تحمّل مزيد من التأجيل الذي يفاقم الأزمات ويعطّل الحلول. المطلوب اليوم هو تشكيل حكومة تعيد الثقة بالدولة، وتفتح صفحة جديدة من العمل الجاد والصادق لإعادة البناء.
الحكومة التي ننتظرها ليست حكومة برلمانية، ولا حزبية مغلقة تعيد إنتاج المنظومة التي أوصلت لبنان إلى هذه الحالة المزرية. بل يتوقع الناس حكومة شبيهة برئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلَّف، في نهجهما غير التقليدي وإرادتهما في الإصلاح. حكومة تنطلق من روح القيادة الجديدة التي جاءت استجابة لانتظارات شعبية مزمنة تسعى للتغيير.
إن كانت التوازنات السياسية تفرض التعامل مع الكتل البرلمانية من أجل التشكيل، فلا يجوز أن يصبح ذلك قيداً على رؤية السلطة. يمكن للكتل تقديم لوائح بأسماء كفاءات مستقلة من خارج المنظومة الحزبية، شخصيات تتمتع بالمصداقية والكفاءة من أخصائيي وخبراء إدارة عامة واقتصاد وسياسات عامة و …، على أن يتم اتخاذ القرار بين الرئيس المكلَّف ورئيس الجمهورية لاختيار الأجدر والأكثر قدرة على تحمّل المسؤولية. فهل من موانع دستورية تعيق ذلك؟
على السلطة الجديدة أن تفيد من الموجة التي جاءت بها، من رئيس مكلَّف، وبفخامة الرئيس من قبله. قد تكون هذه آخر فرصة لإحداث تغيير حقيقي. الشعب اللبناني اليوم يتطلع إلى حكومة مختلفة، حكومة تعيد الثقة، تمثل إرادة الناس، وتبتعد عن المحاصصة السياسية والطائفية.
تجاوز المنظومة البائدة
يعاني لبنان منذ عقود من هيمنة طبقة سياسية بائدة كرّست مصالحها على حساب مصلحة الوطن والمواطن. هذه الطبقة استنفدت كل الفرص، وأثبتت عجزها عن تقديم أي حلول. المطلوب اليوم هو تجاوز هذه المنظومة عبر تشكيل حكومة تستمد شرعيتها من الكفاءة والإرادة الصادقة للإصلاح.
لم يعد مقبولاً أن تُمنح الجهات ذات العرقلات المتكررة جوائز بالتنازلات، مما يقوّض كل مقاربة إصلاحية. من يعرقل اليوم قليلاً سيعرقل كثيراً غداً، وسيستغل كل فرصة لإفشال مشروع إعادة البناء لصالح النظام المدمر السابق. لذلك، من الضروري اتخاذ خطوات جريئة ووضع معايير صارمة لتشكيل الحكومة بعيداً عن الضغوط والمصالح الضيقة.
حكومة تعيد بناء الثقة
الشعب اللبناني يريد حكومة تعكس تطلعاته وأحلامه، حكومة تعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة. هذه الحكومة يجب أن تكون ممثلة لكل اللبنانيين، لا حكومة نخبة مغتربة تقارب الأوضاع كالمستشرقين أو رجال أعمال ناجحين في الخارج ولكن بعيدين عن واقع لبنان وأزماته. فالنجاح الشخصي ليس معياراً كافياً لإدارة بلد يرزح تحت أعباء الفقر، البطالة، والهجرة الجماعية.
لبنان بلد يصدّر كفاءات للعالم، وهذه الكفاءات يجب أن تكون اليوم في خدمة وطنها، لا أن تُستبدل بأسماء براقة لا تملك سوى النجاحات الفردية. الكفاءة في إدارة الدولة ليست امتيازاً فردياً، بل هي معرفة عميقة بطبيعة المشاكل اللبنانية وتعقيداتها، وقدرة على إيجاد حلول عملية ومستدامة.
الحكومة التي نريدها هي حكومة تعرف القاع اللبناني وأوجاعه، عاشت معاناته، عرفت داءه، وامتلكت خبرة وطنية. حكومة تعالج هموم خمسة ملايين لبناني عانوا من الإرهاب والفساد والفقر لعقود طويلة.
فرصة نادرة لا تعوّض
الشعب اللبناني وضع ثقته بشخصَي الرئيسين، كونهما مثَّلا بارقة أمل في زمن الانهيار. هذه الثقة تتطلب استثمار اللحظة الراهنة لتحقيق تغيير حقيقي. الزخم الشعبي الذي واكب فرض هذه القيادة هو فرصة قد لا تتكرر.
لبنان بحاجة إلى حكومة مختلفة، حكومة تتخطى حسابات التوازنات السياسية، وتضع مصلحة الوطن والمواطن فوق كل اعتبار. إذا عادت المعايير الحزبية أو البرلمانية التقليدية لتسيطر على تشكيل الحكومة، فإننا سنعود إلى نفس الحلقة المفرغة التي أوصلتنا إلى هنا.
نجاح تشكيل الحكومة يعتمد على شجاعة القيادة ودعم الشعب. تشكيل حكومة غير تقليدية، بعيدة عن المحاصصة، ملتزمة بإعادة البناء والإصلاح، هو الخطوة الأولى نحو استعادة الثقة وإطلاق مسار التغيير. حكومة تؤسس لوطنية لبنانية جديدة.
الشعب اللبناني يتطلع إلى حكومة تعيد له كرامته وحقوقه و حرياته، حكومة تبني وطناً عادلاً ومستقلاً. هذه هي الفرصة الأخيرة لإنقاذ لبنان، ولا مجال لإضاعتها. المسؤولية بين يدين أمينتين، والأمل معقود على إرادتهما لتقديم نموذج جديد في القيادة يعيد للبنان مكانته كمنارة للحرية والعدالة في المنطقة.
للتواصل مع كاتب المقال: osmatbachir@outlook.com