الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي
“في زمن الخداع العالمي، يصبح قول الحقيقة عملاً ثوريًا” – جورج أورويل.
“كلما حاولنا إنشاء شيء جديد… كلما حاولنا تأسيس حزب جديد، كان ينتهي الأمر بأنه حزب شيوعي آخر” – ڤيكتور تشيرنوميردين.
في التسعينات، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حاولت روسيا أن تُنشئ حياة سياسية جديدة، فأسّست أحزابًا تحمل شعارات الديمقراطية والانفتاح. لكنّها سرعان ما تحوّلت إلى بيروقراطيات خالية من المعنى، يديرها رموز من العهد القديم بعقلية الحزب الواحد. فعلق رئيس الوزراء الروسي ڤيكتور تشيرنوميردين بسخرية لاذعة: “كلما حاولنا إنشاء شيء جديد، نكتشف أننا أعدنا تشكيل الحزب الشيوعي”.
اليوم، في لبنان، وبعد أكثر من ثلاثين عامًا على نهاية الحرب الأهلية، تتكرّر النكتة، لكن بنكهة لبنانية أشد قسوة، وأشد خطورة. كلما حاول اللبنانيون الدفع نحو إصلاح، تبيّن أن النظام قد أعاد تدوير نفسه من الداخل، باسم الواقعية تارة، وباسم “التوازن” الطائفي تارة أخرى، وباسم درء الفتنة دائمًا. إننا في حلقة مغلقة تُعيد إنتاج الرداءة، لا الكفاءة؛ وتكرّس الحيلة، لا النزاهة؛ وتُبقي على الخراب، ولكن بمظهر جديد.
منذ اتفاق الطائف، يعيش لبنان في دورة مفرغة من الفشل المقونن. لا نهوض اقتصادي، لا بناء مؤسسات، لا عدالة اجتماعية، ولا سيادة فعلية. كل حكومة تُعلن أنها حكومة إنقاذ، وكل سلطة تتحدث عن الإصلاح، ثم تسقط البلاد أكثر، وتُنسى الشعارات، وتُرمى اللجان، وتُغلق الملفات. نُشكّل حكومة “اختصاصيين”، فتخرج كما دخلت، بلا صلاحيات ولا أثر. ننتخب مجلس نواب جديد، فيُعيد إنتاج الزعامات نفسها، بالأصوات نفسها، بالتجييش نفسه. نؤسّس هيئة لمكافحة الفساد، فيتولاها أهل الفساد أنفسهم. وكلما طُرح حل، تبيّن أنه نسخة مشوهة عن فشل سابق.
لكن الأخطر من الفشل المتكرر هو الحنين إليه. اللبناني، الذي عاش عقودًا في ظل زعامات الحرب، بات يجد في الماضي ملاذًا من حاضره المقيت. أمراء الطوائف، الذين قادوا البلاد إلى الدمار، يتحولون في الذاكرة العامة إلى “رموز وطنية”، تُرفع صورهم وتُروى عنهم الحكايات، ويُغفر لهم كل شيء لأنهم صاروا “الواقع”. هكذا، بدل أن يُسقط الناس المجرمين، يُكافئونهم، لأن النظام نجح في جعل الجريمة تبدو مألوفة، بل مشروعة.
لكن هذه الصورة لم تُنتَج وحدها. لقد عملت المنظومة، بكل أطيافها، على صناعة هذا الانطباع. صنعت لغة محبطة، تُروّج لليأس، وتُجيد تمثيل دور الضحية، وتُتقن لبس ثياب المهزوم في معركة لم تُخض أصلًا. ألدّ الخصوم السياسيين يتوافقون حين تتعلّق المسألة بمصير الناس، ليضمنوا ألا يتغيّر شيء. هكذا أُفشل القضاء، وهكذا جرى التمديد للأجهزة الأمنية، وهكذا رُكّبت الحكومات كما تُركّب ألعاب الخدع، وهكذا أُفشلت فكرة نواف سلام، وهكذا يُدار الفراغ.
لم يُهزم نواف، بل أُريد له أن يُهزَم. لم يُسقطه فريق واحد، بل سقطت المنظومة كلّها على عتبة اسمه. لا لأنه معصوم، بل لأنه مختلف. لأن مجيئه كان يعني مساءلة لا تحتملها التركيبة، ووضوحًا لا يريده أحد، ومسؤولية تُسقط كل الأقنعة. لم يكن الانسحاب من دعمه موقفًا سياديًا، بل كان هروبًا من امتحان بناء الدولة. والذين ارتضوا الفراغ بدل المواجهة، ارتضوا ضمنًا بقاء لبنان كيانًا مشلولًا، تحكمه صفقة، ويُدار بالعتمة.
إن من شرد من قوى التغيير إلى شعارات السيادة الفارغة، وجد نفسه على الضفة الأخرى، ينتظر وحيدًا أن تُصغي له منظومة لا تسمع، ولا تريد أن تسمع. من هجر معركة الداخل، وجد نفسه غريبًا حتى عن جمهوره. لأن القضية لم تكن يومًا شعارات، بل كانت دومًا معركة بقاء، معركة بناء دولة، لا إعادة إنتاج سرديات زائفة.
ولا بد من التوقف أيضًا أمام واقع قوى التغيير نفسها. فقد حصلت هذه القوى في الانتخابات النيابية الأخيرة على عدد من الأصوات يفوق بكثير ما تُرجم من مقاعد. نظام انتخابي جائر، مصمم لحماية الزعامات الطائفية، منع التمثيل العادل، وشوّه إرادة الناس. ومع ذلك، فإن هذا الحضور الشعبي الفعلي فرض نفسه، وفرض حكومة مختلفة في التوجه والشكل، لا تزال الهجمات تستهدف رئيسها وأبرز كفاءاتها، لا لأنها فشلت، بل لأنها تُذكّر المنظومة بأن البديل ممكن، وأن لبنان لا يزال قادرًا على إنتاج سياسة لا تقوم على السطو والكذب. ربما لا تعكس الحكومة القائمة ميزان القوى داخل مجلس النواب، لكنها تعكس، على نحو مقلوب، ميزان قوى المجتمع: مجتمع يريد دولة، ويُقابل بتحالف لا يريد إلا إدارة الخراب.
لا خيار لمواجهة العصابة إلا بالذهاب إلى الانتخابات. بلدية أولًا، ثم نيابية. هذه هي الساحة الوحيدة التي لم تتمكن المنظومة من إغلاقها نهائيًا، رغم كل محاولاتها، رغم كل تأجيل وتسويف. من هنا تبدأ المعركة الحقيقية، لا من الحملات الموسمية ولا من البيانات الغاضبة. وعلى قوى التغيير، بكل تنويعاتها وتعدديتها، أن تدرك أن زمن المناكفات انتهى، وزمن الاختبارات الذاتية انتهى. لم نعد نريد التغيير لنحكم، بل نريده لنعيش حياة طبيعية. حياة لا نُذل فيها أمام مكاتب الخدمات، ولا نُهان فيها في المستشفيات، ولا نُعزل في المطار، ولا نُدفن في البحر.
مللنا من أحابيل الفاسدين، ومن تمثيلهم علينا أدوار الواعظين. مللنا من الذين لهم رجل في البور وأخرى في الفلاحة، من أولئك الذين يحترفون إضاعة الوقت وإضاعة الحقيقة. نريد أن يحكمنا بشر طبيعيون، لا يرشون ولا يرتشون، لا يقتلون ولا يلفقون، لا يسرقون ولا يبررون. تعب الناس، وحين قلنا “كلن يعني كلن” عاتبونا، كل طرف على انفراد، من قوى الاعتراض من أحجم عن تسمية الفئات بحجة أنها تقاوم. لكن ها هم المقاومون أنفسهم، يقفون اليوم صفًا واحدًا، يشرّعون السطو على مدخرات الناس، أولئك الذين شقوا وتعبوا طوال أعمارهم، دون أن يخافوا الله الذي يخبروننا كل يوم أنه يراهم.
انظروا إلى المنطقة من حولكم. لا شيء ساكن. الفوران واضح، التحولات كبرى، والنظام الإقليمي بأسره يعاد تشكيله. وحدهم في لبنان، من يتولون السلطة اليوم، لا يفكرون إلا بأنفسهم. الطائفيون والفاسدون، بكل أسمائهم وشعاراتهم، لا يبنون بلدًا، ولا يؤسسون مستقبلًا، ولا يحفظون كرامة. إنهم يحكمون كأن الزمن متوقف، وكأن الناس لا يرون، وكأن الكارثة ليست إلا مادة إضافية على نشرات الأخبار. لكن لبنان لا يحتمل مزيدًا من التأجيل، ولا يقوى على تحمل جولة إضافية من اللامعنى.
ويجب أن يُقال بوضوح: من يروّج لاستحالة التغيير، يظن نفسه واقعيًا، لكنه في الواقع، يخدم النظام أكثر من أي خطاب دعائي. لأن حزب الفساد لا ينتصر بخطاب القوة، بل بخطاب الاستسلام. لا يحتاج إلى التهليل، يكفيه أن يقتنع الناس بأنه لا جدوى من مواجهته. هكذا ينتصر، لا بقوته، بل بانهيار معنويات خصومه. لكن هذا الانهيار ليس قدَرًا. ولا يجوز السماح له بأن يصبح واقعًا مُعاشًا. لأن التغيير لا ينتظر لحظة مثالية، ولا يتطلب بيئة خالية من الخطر. بل يبدأ حين تقتنع فئة صادقة من الناس أن انتظار المعجزة هو هروب، وأن انتظار “اللحظة المناسبة” هو نوع آخر من التسليم المدروس.
لا يزال من الممكن أن يُكسر هذا التواطؤ العميق الذي حكم لبنان منذ نهاية الحرب. لا يزال ممكنًا أن تُبنى جبهة وطنية حقيقية لا تتنازع على الزعامة، بل تتوحد على مشروع واضح، نابع من فكرة الدولة لا من متطلبات التسوية. ولا يزال من الممكن أن تُكتب بداية جديدة، بوجوه جديدة، لا تركب المنابر بلهجة المستقيل، ولا تخاطب الناس بلغة الإحباط، بل بلغة العقل الحازم والإرادة العنيدة.
المعركة لم تنتهِ. ولا تزال هناك فرصة لقول كلمة فاصلة في وجه منظومة أتقنت اللعب على الوقت، وسرقة المعنى، وإفراغ المفاهيم من مضامينها. ليس المطلوب أن نُنتج بطلًا، بل أن نُنتج خطابًا متماسكًا، وحضورًا صادقًا، وإيمانًا بأن الخلاص لا يأتي على مراحل، بل من لحظة إدراك أن هذه الطبقة لن تنتج بلدًا، ولن تغيّر شيئًا إلا لإعادة تموضعها فوق الركام.
ما يُراد لهذا البلد هو أن يفقد ذاكرته، وأن يعتاد الخراب، وأن يتحوّل جرحه إلى نمط حياة. وما يُطلب من الناس هو أن يتوقفوا عن الحلم، ويكتفوا بالنجاة. لكن هذا ما لا يجوز السماح بحدوثه. لأننا لا نطلب معجزة، بل نطلب بداية. ولا نبحث عن بطل، بل عن مشروع. ولا ننتظر أحدًا، بل نبدأ بأنفسنا. لأننا سئمنا أن نضحك على نكتة تشيرنوميردين، ونريد أخيرًا أن نكسرها، لا أن نكرّرها.
“نحن محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ” – سعد الله ونوس.