الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي
- كونفوشيوس: “القيادة ليست في كسب الوقت، بل في مواجهة الحقائق بشجاعة وإحداث التغيير”.
- أفلاطون: “الأمم لا تُبنى إلّا على الحقيقة والعدل، وكل محاولة لبنائها على الخديعة والانقسام مصيرها الفشل”.
في لحظة حاسمة من حرب إسرائيل على لبنان، تم التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل، لكن هذا الاتفاق لم يكن مجرّد خطوة لإنهاء القتال، بل فتح بابًا واسعًا من التساؤلات حول تفاصيله وتداعياته. فالمشهد السياسي اللبناني، الذي يعيش حالة من الشلل بفعل المناورات الحزبية والصراعات الطائفية، يضع هذا الاتفاق تحت المجهر، في ظل تداخل معقّد بين المصالح الدولية والمحلية، وكيفية معرفة مضمون هذا الاتفاق المكتوم. ما تداعيات هذا المضمون على المشهد الداخلي والإقليمي؟ وهل يُمكن للبنان أن يستعيد سيادته وسط هذه التحديات؟
لقد تمّ الإعلان عن تمديد وقف إطلاق النار لمدة شهر إضافي، لكن الغموض المحيط بالاتفاق يفتح الباب أمام تساؤلات عميقة. فبينما تتحدث الحكومة وحزب الله عن نجاح دبلوماسي أو عسكري، تشير الوقائع إلى أن هناك تفاهمات سرية قد تمسّ مستقبل لبنان وسيادته. الغموض هنا ليس عشوائيًا، بل هو انعكاس لمنظومة سياسية تعوّدت على إدارة البلاد من خلف الكواليس، بعيدًا عن المحاسبة أو الشفافية.
التساؤل الأساسي: هل الاتفاق مجرّد تهدئة مؤقتة؟ أم أنه يتضمن ترتيبات أوسع تتعلق بملفات استراتيجية مثل النفط والغاز في المناطق الحدودية؟ أو ربما يشتمل على تغييرات في دور قوات “اليونيفيل” جنوب الليطاني؟ كل هذه الأمور، إذا كانت صحيحة، تعني أن الاتفاق ليس مجرّد إجراء عسكري، بل هو تحوّل استراتيجي يستحق نقاشًا وطنيًا شفافًا.
الهيمنة الإسرائيلية: استمرار الانتهاكات وتأزيم الداخل
رغم الإعلان عن الهدنة، واصلت إسرائيل استغلال الأجواء اللبنانية، مستمرة في تحليق طائراتها وتنفيذ عمليات خارج مناطق جنوب الليطاني. هذه التصرفات تمثل انتهاكًا للسيادة اللبنانية، وتعيد إشعال التوترات السياسية والأمنية. فلبنان الذي يواجه ضغوطًا اقتصادية واجتماعية خانقة، يجد نفسه مرة أخرى أمام مشهد إقليمي متشابك يزيد من هشاشة وضعه الداخلي.
الاستفزاز الإسرائيلي لم يتوقف عند التحركات العسكرية فقط، بل تعدّاه إلى استغلال الانقسامات الداخلية. إن استمرار هذه الانتهاكات يُبرز العجز اللبناني عن اتخاذ موقف موحّد يعيد للدولة هيبتها. لكن السؤال الأكبر يبقى: هل يُمكن للبنان أن يواجه هذا الواقع المتدهور في ظل صراع داخلي يعطّل أي إمكانية للإصلاح؟
استغلال حزب الله: بين الخطاب المقاوم والتناقضات
حزب الله، الذي اعتاد على تقديم نفسه كقوة مهيمنة على الساحة اللبنانية، وجد في الاتفاق فرصة لإعادة تعزيز موقعه الداخلي. فكان الزحف الشعبي إلى القرى الجنوبية المحتلة بمثابة رسالة مزدوجة؛ فمن جهة، عبّر الأهالي عن شوقهم وحنينهم إلى قراهم المدمرة وذكرياتهم التي طمرتها الحرب، ومن جهة أخرى، استغل حزب الله هذا التحرك لتصوير نفسه كمدافع عن حقوق الشعب اللبناني، رغم أن قراراته الاستراتيجية هي التي ساهمت في تدمير هذه المناطق.
الاعتراف الأخير من قِبل الشيخ نعيم قاسم بالفجوة العسكرية بين حزب الله وإسرائيل يعكس تحولًا لافتًا في خطاب الحزب، لكنه يفتح أيضًا الباب أمام تساؤلات جدية حول مصير سلاحه ودوره في لبنان. طوال سنوات، روّج الحزب لخطاب القوة المطلقة، مع وعود بإمكانية مواجهة إسرائيل منفردًا، لكن الوقائع الأخيرة أظهرت العكس تمامًا. هل يمكن للحزب أن يستمر في هذا النهج، أم أن الوقت قد حان لمراجعة شاملة لدوره؟
إن الواقع الراهن يدفع الجميع إلى مراجعة معادلة “جيش وشعب ومقاومة”. هذه المعادلة، التي أصبحت شعارًا سياسيًا، لم تعد تتناسب مع معطيات اليوم. الدولة اللبنانية تحتاج إلى استعادة سيادتها كاملة، من خلال توحيد القرار العسكري والأمني تحت مظلة الجيش اللبناني. لكن هذه الخطوة تتطلب جرأة سياسية لا تزال مفقودة.
في الوقت ذاته، يجب أن يواكب هذا التحول نقاش وطني صريح حول دور حزب الله كسلاح غير شرعي في الدولة. هل يمكن للحزب أن يتحول إلى حزب سياسي طبيعي، متخليًا عن سلاحه لصالح الدولة؟ أم أن التوازنات الطائفية ستستمر في تأجيل هذا النقاش المصيري؟ وربما كان من المفيد البحث بقانون جديد للأحزاب و عدم جواز تشكيل أحزاب على قاعدة مذهبية أو دينية.
القيادة الجديدة: اختبار الشجاعة والشفافية
إن البساط الذي تمدّه الطبقة السياسية أمام الرئيس نواف سلام يبدو وكأنه يرفض أن يُطأه، ليس فقط لأنه هو نفس البساط الذي سار عليه كل من فشل أو أفسد وأوصل البلاد الى ما هي عليه، بل لأنه مشبع بالتناقضات والمصالح المتضاربة والطائفية التي تجعل السير عليه أمرًا محفوفًا بالمخاطر. ربما، ومن منظور أعمق، جاء سلام لا ليتّبع البساط المفروش أمامه، بل ليطرح بديلاً جديدًا يغيّر قواعد اللعبة السياسية في لبنان نحو إصلاح وحلول جذرية، وهو الممسك بكتاب الدستور.
في ظل هذه التعقيدات، تبدو الحكومة اللبنانية الحالية السيئة الصيت غير قادرة على اتخاذ قرارات حاسمة. فما يجري من تمديد مستمر للفراغ السياسي وعرقلة تشكيل حكومة كفاءات مستقلة يعكس تواطؤ القوى السياسية التي تفضّل الإبقاء على الوضع الراهن، بدلًا من مواجهة استحقاقات المرحلة. إن إصرار الثنائي على التمثيل في الحكومة يعكس معادلة مزدوجة: فقبول الرئيس المكلّف بهذه المطالب يعني فتح الباب أمام ما تتمناه قوى المنظومة للمطالبة بحصص لها مما يطيل أمد الأزمة ويزيد من تعقيد المشهد.
لكن السؤال الذي يبقى هو: هل تسمح المنظومة السياسية الراسخة، التي أتقنت لعبة التعطيل، بأن يفرش بساط جديد يهدّد أركان نفوذها؟ أم أنها ستظل متمسكة ببساطها القديم، الذي طالما كان أداة لتثبيت مصالحها على حساب مصلحة الوطن؟ في نهاية المطاف، نجاح سلام في المضي قُدمًا يعتمد على مدى قدرته على بناء تحالف شعبي ووطني يسانده في مدّ بساطه الجديد، الذي قد يكون فرصة لبنان الأخيرة للنهضة من أزماته.
من هنا ينتظر اللبنانيون، رئيس الحكومة المكلّف، أن يتعامل مع تشكيل حكومة كفاءات وطنية بعيدة عن المحاصصة الطائفية بحزم وشجاعة وقد غدا ذلك ضرورة ملحّة بالنظر الى حجم المهمات الضرورية لإنقاذ لبنان من أزماته، بل أيضًا لاستعادة الثقة الشعبية والدولية. التحديات هائلة، لكن القيادة الحقيقية تظهر في الأوقات الصعبة. ولوقف الاعتداءات الإسرائيلية والضغط لانسحابها، وربما الكشف وتعديل تفاصيل الاتفاق مع إسرائيل، والعمل على إنهاء الفراغ الحكومي.
الوقت ليس في صالح الانتظار واستمرار الشلل والمراوغة السياسية. كل ذلك لن يؤدي إلّا إلى تعميق الأزمة. القيادة الجديدة، إذا أرادت النجاح، عليها اختيار السرعة لا التسرّع والشفافية والشجاعة، وأن تعمل على بناء دولة حقيقية تعكس تطلعات الشعب. هذه اللحظة قد تكون فرصة لإعادة بناء لبنان، أو فصلًا جديدًا من فصول الفشل. الخيار بأيدي من يمتلكون القرار.
أما القوى التي تريد وطنًا عليها عدم انتظار وصول المدينة الفاضلة إليها (دليفري)، بل البرهنة عن دعمها خطوات القيادة الجديدة لتتمكن من الانطلاق والانتظام في تكوينات سياسية ديمقراطية قائمة أو مستحدثة للقيام بدورها في ورشة بناء دولة يستحقها اللبنانيون.
للتواصل مع كاتب المقال: osmatbachir@outlook.com