الثلاثاء, فبراير 18, 2025
1 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

د. بشير عصمت ـ نواف سلام: صراع الإصلاح والمنظومة المتجذرة

الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي

  • إن الفساد أشبه بالطاعون، إذا لم يُكافح في مهده، فإنه ينتشر ويدمر الأمم” – مونتسكيو
  • العقبات هي تلك الأشياء المخيفة التي تراها عندما ترفع عينيك عن الهدف” – هنري فورد

 

في الجنوب، حيث تُرسم خطوط التفاهمات في الغرف المغلقة، يبقى المصير مجهولًا، وكأن اللبنانيين ليسوا أصحاب القرار في أرضهم. فالتصعيد هناك ليس مجرد اشتباك عابر، بل ورقة مساومة في لعبة تفاهمات أكبر، حيث تتداخل المصالح الدولية والإقليمية دون أن يأبه أحد بمستقبل العائلات التي شُرّدت، والبيوت التي سُويت بالأرض، والقرى التي أُفرغت من أهلها. وفي هذا الوقت، تتوالى الضغوط السياسية الداخلية لإفشال ما تبقى من أمل في تشكيل حكومة قادرة على مواجهة التحديات.

منذ تكليفه بتشكيل الحكومة، وجد القاضي نواف سلام نفسه في مواجهة سيلٍ من الهجمات المتنوعة، لم تأتِ فقط من القوى التقليدية المهيمنة، بل أيضًا من بعض القوى التي حملت لواء الإصلاح والمعارضة. هذا الإجماع الضمني بين الأطراف المتناقضة على رفض سلام أو تقييده يؤكد أن الأزمة ليست شخصية، بل تتعلق بجوهر النظام السياسي اللبناني، القائم على التوازنات الطائفية والمحاصصة، الذي يرى في أي محاولة تغيير تهديدًا وجوديًا فلم يكد سلام يبدأ مشاوراته حتى انطلقت حملة إعلامية شرسة تهدف إلى ضرب مصداقيته وعرقلة جهوده في التشكيل.

نواف سلام، الذي يأخذ عليه البعض بأنه صاحب ماضٍ راديكالي معارض، يتعرض لتشويه مُمنهج من جهات أخرى تراه مجرد مرشح مدعوم من الخارج.  وفي الحالتين، لا تعدو هذه الاتهامات أن تكون محاولة يائسة لنزع الشرعية عن رجل لم يرتبط يومًا بفسادهم، ولم يكن جزءًا من شبكات المحاصصة والزبائنية التي تغلغلت في جسد الدولة اللبنانية حتى نخاعها. سواء التوافق أو التناقض في الهجوم عليه يكشف خواء حجج من يريدون إسقاطه، فهم يتقلّبون بين سرديات متناقضة فقط ليبرّروا رفضهم لرئيس حكومة لا يشبههم، ولا يقايض على الإصلاح، ولا يدخل في بازارات تقاسم السلطة.

فالغانمان لم يناقشا مشروعه الإصلاحي، بل اخترعا له تصنيفات تناسب مصالح من يمثلون؛ فمرّة هو مرشح الخارج، ومرة أخرى هو امتداد لتاريخ سياسي لا يرتاحون إليه. لكن الحقيقة أن هذا الرجل جاء بخطاب واضح: حكومة كفاءات، وزراء غير حزبيين، إصلاحات جدية، وقطع مع إرث المحاصصة. هذه المعايير هي نفسها التي ترعب القوى السياسية التقليدية، لأنها تدرك أن أي حكومة لا تقوم على معادلاتهم الطائفية ستُخرجهم تدريجيًا من الساحة السياسية.

التعطيل لم يأتِ فقط من القوى التي تتحفظ على الإصلاح، بل أيضًا من بعض أولئك الذين يدّعون دعمه حيث فرضوا على سلام شروطًا تعجيزية، حتى قبل أن يبدأ. لقد تعرض لابتزاز سياسي مكشوف: إذا توافق مع فريق معين، عارضه آخر؛ وإذا أدار مفاوضاته مع جهة ما، أُتهم بأنه انحاز إليها. حتى بات المشهد عبثيًا، وحيث تحوّل التنافس السياسي الطبيعي المشروع إلى حقل ألغام يزرعونه حوله ليعيقوا خطواته الأولى. وهنا يتجلى جوهر الصراع: هل ستتمكن هذه الحكومة من إعادة لبنان إلى مسار الدولة الحديثة، أم ستبقى رهينة ابتزاز الطبقة السياسية التي لا تعرف إلا الحكم عبر الفوضى؟

المفارقة الكبرى أن بعض القوى التي تدّعي المعارضة تلوّح صراحةً بإسقاط سلام والعودة إلى رؤساء حكومات اعتاد اللبنانيون على فسادهم ونهبهم العلني ربما كان الأمر ابتزازًا وربما كان جديًا حيث يأتلف الخصوم لإسقاط البلد. ليس سرًا أن هناك من يراهن على استنزاف هذا العهد منذ بدايته، فلا يريدون شهابية مدنية لذا يعملون لمنعه  من أن ينجح في وضع حدّ لنظام المحاصصة الذي جعل الدولة مجرّد أداة لخدمة شبكات المصالح الضيقة التي تعيد إنتاج النظام نفسه. لم يكن الفساد يومًا مجرد ظاهرة عابرة، بل كان دومًا استراتيجية حكم، ومن هنا تأتي مقاومة التغيير، لأن أي محاولة جدية للإصلاح تعني تلقائيًا خسارة المنظومة التقليدية لنفوذها ومكتسباتها.

منذ البداية، كان واضحًا أن العرقلة ليست نابعة من ضعف نواف سلام أو تردده، كما يشاع بل من صلابة موقفه في رفض تقديم تنازلات تُعيد إنتاج ذات التركيبة الفاشلة. إنه يواجه طبقة سياسية لا تتنافس على من سيقدم حلولًا أفضل، بل على من سيُفشل الإصلاح أولًا. هؤلاء لا يريدون أن يُحاسَبوا، لا يريدون شفافية، لا يريدون استعادة الدولة، لأن في ذلك تهديدًا مباشرًا لاستمراريتهم. كلٌّ منهم يدّعي الدفاع عن المصلحة الوطنية، لكن ما يُحركهم في الواقع هو الخوف من حكومة لا يكون لهم فيها موطئ قدم يمكنهم عبره تمرير صفقاتهم المعتادة.

ليس صحيحًا أن الأزمة الحالية هي أزمة تشكيل حكومة فحسب. ما يجري هو صراع بين من يريد إبقاء لبنان غارقًا في الفساد والفوضى، مشرّعًا أبوابه لهجرة أبنائه، وبين من يريد إنقاذ البلاد وإعادتها إلى مسارها الطبيعي. المشهد أوضح مما يعتقد البعض: هناك طرف يملك مشروعًا واضحًا للإصلاح، وطرف آخر لا يملك سوى خطاب التخويف، والتشكيك، والعرقلة، والطائفية. ان المزايدات لن تغير شيئًا من أهداف نواف سلام، والتنافس السياسي مشروع ومطلوب، لكن الافتراء وتشويه الصورة لن يفلحا مهما كانت الأدوات المستخدمة. هناك قوى تدفع أموالًا طائلة في الإعلام لإضعافه، وهناك من يستخدم الدعاية السوداء لتصويره وكأنه عالق في متاهة سياسية لا مخرج منها، لكن الواقع يقول عكس ذلك: سلام لم يأتِ ليعقد الصفقات، بل ليكسر حلقة الفساد. الصاد وضواحيه وأزلامه في مجلس النواب في معظم الكتل ومافيا المصارف والدعاة المحرضين الطائفيين تحركوا في وقت واحد لإحباط العهد عبر إسقاط نواف منفقين مال قارون وما سلبوا وما ملكت أيديهم لكنهم عبثًا يفعلون.

ليس المال وحده عنصر الإبقاء على شبه الدولة إنما الفساد أيضًا والطائفية و ما يسمى بالميثاقية وعدم تطبيق الطائف والدولة العميقة وحبل السرة مع الخارج ومنح الثقة للحكومة. قد يبدو الأمر مفاجئًا للبعض، ولكن بعد وصول عهد جديد واستشارات نيابية ملزمة لتسمية رئيس الحكومة، ما الحاجة بعد ذلك لطلب الثقة؟ فطالما الحكومة مضطرة للحصول على ثقة مجلس النواب لا يتبقى أي هامش لها ولرئيسها لتنفيذ برامجه ويكون الحكم مجلسي. إنه أحد الأسرار الدستورية التي تفرض الألاعيب والابتزاز. (سنتناول ذلك بالتفصيل لاحقًا).

هذه الحكومة، إن كُتب لها النجاح، وسيكتب، ستكون نقطة تحول حقيقية، ليس فقط في أداء السلطة التنفيذية، بل في رسم ملامح جديدة للحياة السياسية في لبنان. ليس مسموحًا بعد اليوم أن يبقى هذا البلد رهينة رهانات الخارج، أو أن تكون الدولة مجرد أداة لخدمة أجندات ضيقة. إما أن ينجو لبنان، أو أن يستمر في هذا المستنقع، حيث تحكمه أقلية تتقاسم النفوذ والمكاسب على حساب شعبه. مهما اشتدت الحملات، ستبقى هذه الحقيقة ثابتة: الإصلاح قادم.

للتواصل مع كاتب المقال: osmatbachir@outlook.com

https://hura7.com/?p=43701

 

 

 

الأكثر قراءة