الجمعة, مارس 21, 2025
18 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

د. بشير عصمت ـ يوم المرأة العالمي: محطةٌ للنضال أم احتفالٌ ناقص؟

الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي

إنه يومُكنّ، ولم يبلغ بعد مرتبة العيد. فالعيد يأتي حين تتحقق العدالة، وحين لا يكون الحديث عن المساواة مطلبًا بل واقعًا، وحين لا تضطر المرأة كل عام إلى تذكير العالم بأنها لا تزال تقاتل من أجل حقوقٍ بديهية.

لقد آن الأوان لأن ينتهي زمن التمييز، كما انتهت أزمنة الجدل العقيم حول قضايا لا تُغني عن عدالة، كالسجال حول جنس الملائكة، فيما التاريخ يصنع نفسه بيد الأقوياء ولا ينتظر. لا يزال التفاوت بين الجنسين قائمًا، لا كفكرةٍ نظرية تحتاج إلى برهان، بل كواقع ملموس، في السياسة، في الاقتصاد، في الاجتماع، وفي كل زوايا الحياة حيث توضع المرأة في مرتبةٍ تابعة، ولو تجمّل الأمر بخطاباتٍ ناعمة تعدها بحقوقٍ لا تأتي أبدًا كاملةً، بل مشروطةً، منقوصةً، كأنما هي امتيازٌ يُمنح لا حقٌ أصيل.

ليس احتفالًا، بل تذكيرٌ بأن الطريق لا تزال طويلة

إن الاحتفاء بيوم المرأة العالمي لا يعني أنه عيدٌ للفرح، بل هو يومٌ يذكّر بأن النضال لم ينتهِ، وأن المساواة لا تُنال بالمجاملات، ولا بالإصلاحات الشكلية، ولا بأنصاف الحلول التي تُبقي المنظومة كما هي. المساواة تتحقق عندما تُزال العقبات الهيكلية التي تجعل المرأة دائمًا بحاجة إلى “إثبات جدارتها”، وكأن المسألة متلازمةٌ مع التشكيك، لا مع العدالة.

كيف تكتمل الديمقراطية والمرأة مستثناةٌ من دوائر القرار؟ كيف يمكن الحديث عن تقدمٍ اقتصادي في مجتمعاتٍ تُحاصر نصفها تحت سقفٍ زجاجي، فلا يُسمح له بالصعود، ولا يُسمح بتعريض الزجاج للكسر؟ كيف نبحث عن الاستقرار السياسي دون أن ندرك أن التوازن يبدأ من الحق قبل أن يُبنى على السلطة؟

المسألة ليست تمكين المرأة فقط، بل إصلاح المجتمع بأسره

إن هذه القضية لا تتعلق بتمكين المرأة وحدها، بل هي قضية تخص المجتمع بأسره، فالتمييز ضد المرأة ليس ظلمًا فرديًا، بل هو خللٌ في النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. وعندما يُقصى جزءٌ من المجتمع، فإن التخلف والتراجع يصبحان النتيجة الحتمية. المساواة ليست مواجهةً بين الرجل والمرأة، بل هي إعادة ضبطٍ للعدالة، بحيث لا يكون هناك طرفٌ يعاني، وطرفٌ يتسلّح بأعرافٍ بالية تمنحه امتيازاتٍ لا تستند إلى كفاءة، بل إلى إرثٍ قديم آن له أن يتهاوى.

المسألة ليست نصوصًا تُكتب، بل عاداتٌ تُهدم

لا يتحقق التغيير بالتشريعات وحدها، فما جدوى النصوص إن بقيت حبرًا على ورق، بينما الواقع يصنعه مجتمعٌ يُعيد إنتاج ذات المفاهيم التي تكرّس التمييز؟ ما نحتاج إليه ليس فقط قوانين تضمن الحقوق، بل ثورةٌ ثقافية تُطيح بالتصورات البالية التي تجعل المرأة، حتى في اللحظة التي تنال فيها حقوقها، تعاني من مقاومةٍ اجتماعية تحاصرها، تشكك فيها، وتجعلها دومًا في موقف الدفاع عن نفسها وكأنها دخيلةٌ على ما تستحقه.

المفارقة الكبرى أن التمييز ضد المرأة لا يرسّخه الرجال وحدهم، بل النساء أيضًا، بحكم التنشئة، بحكم أن القهر المتراكم عبر الأجيال أصبح جزءًا من القناعة الشخصية، حيث تُربّي الكثير من الأمهات بناتهن على الطاعة، وأبنائهن على القيادة، فتتجذّر المشكلة من الطفولة، ويستمر المجتمع في إعادة إنتاج ذاته. كيف يمكننا أن نطالب بالمساواة فيما المرأة نفسها، التي تتحمل مسؤولية التربية، تُعيد ترسيخ ذات القوالب الاجتماعية التي قهرتها؟ إن تحرير المرأة يبدأ من وعيها بحقوقها، قبل أن يكون مطلبًا تواجه به الرجال أو المؤسسات.

المساواة لا تتحقق بالخُطب ولا بالمواسم الاحتفالية، بل حين لا يُنظر إلى وجود المرأة في أي مجالٍ على أنه استثناء، حين يصبح الطريق مفتوحًا لها، لا تحتاج فيه إلى جهودٍ مضاعفة كي تثبت أنها أهلٌ لما تستحق. ما نحتاجه ليس “قبول” الرجل لمساواة المرأة، بل وعيًا جماعيًا يُدرك أن المساواة ليست مِنّة من أحد، بل شرطٌ أساسيٌ لأي مجتمعٍ يدّعي التقدم والعدالة.

لبنان… خطوةٌ إلى الأمام أم تراجع في مسارٍ طويل؟

قد يبدو أن لبنان، وسط أزماته المتلاحقة، قد خطا خطوةً متقدمةً في تمكين المرأة، سواء في الانتخابات النيابية أو في دخولها الحكومة، خطوةٌ عليها أن تستكمل، لكن المسار لم يكتمل، والطريق لا تزال وعرة. فالمشاركة النسائية التي تبدو انتصارًا، قد تكون أحيانًا مجرد ديكورٍ ديمقراطي يُجمّل المشهد السياسي، دون أن يعني تحوّلًا حقيقيًا في موازين التقاليد والأعراف.

إنَّ ريادة لبنان في الشرق ليست صدفة، بل هو تاريخٌ صنعته أفكار التحرر والانفتاح، وهو قادرٌ على أن يكون نموذجًا في ترسيخ المساواة، لا فقط كنصوصٍ قانونية، بل كواقعٍ لا يحتاج إلى نضالٍ يومي لإثباته. لكن هذا لا يمكن أن يتحقق في ظل تشريعاتٍ متأخرة لا تزال تُبقي على أنظمة الأحوال الشخصية غير العادلة، وفي ظل قوانين لا تحمي النساء من العنف، ولا تضمن لهن عدالةً اقتصادية، ولا تفتح لهن الأبواب السياسية إلا ضمن شروطٍ تفرضها اللعبة الذكورية السائدة.

المسألة ليست في عدد النساء اللواتي دخلن البرلمان، بل في مدى قدرتهن على التأثير الحقيقي، في مدى استقلالية أصواتهن، في كسر القوالب التي ترى أدوارهن في قضايا “المرأة”، بينما السياسة الحقيقية هي إعادة بناء المجتمع ليكون أكثر عدالة.

إن الطريق إلى المساواة لا يكون بالمجاملات السياسية، بل بأن تصبح المرأة فاعلةً في صنع القرار، لا مجرد رقمٍ في معادلة التوازنات الطائفية والمصلحية.

لنناضل ضد التمييز والاستغلال

إنّ الثامن من آذار ليس مناسبةً عاطفية، بل محطةٌ لمحاسبة العالم على إخفاقاته. هو يومٌ للنضال، لا للاحتفال، يومٌ نرفع فيه راية التغيير دون هوادة، كما فعلت أولئك النسوة في نيويورك عام 1856، حين خرجن ضد استغلال العاملات، حين طالبن بحقوقهن لا كمنحة، بل كحقيقةٍ لا جدال فيها.

لكن التحدي اليوم بات أوسع من معركة الحقوق الأساسية. نحن في عالمٍ يزداد فيه العنف ضد الضعفاء، والمرأة هي الأكثر تعرضًا في مجتمعٍ يُعيد إنتاج رجعيته، أو إنتاج أشكالٍ جديدةٍ من العبودية المُحدثة.

العنف لم يكن يومًا جسديًا فحسب، بل اقتصاديًا، اجتماعيًا، سياسيًا. نحن في عالمٍ يُعاد فيه إنتاج الفجوة بين الجنسين، حيث الأزمة الاقتصادية تُلقي بثقلها على النساء أولًا، حيث البطالة، والتحرش، والتهميش، كلها أدواتٌ جديدةٌ لسلب المرأة موقعها، في وقتٍ لا تزال فيه القوانين عاجزةً عن حماية ما يُفترض أنه بديهي.

ليس المطلوب مساواةً في النصوص، بل عدالةً في الفُرص، لا تمكينًا شكليًا، بل إعادة تشكيل المجتمع بحيث لا يكون النضال من أجل الحقوق معركةً يوميةً تحتاج إلى الصراخ كي تُسمع.

تحيةٌ لكل المناضلات اللواتي لا تُكتب أسماؤهن في التاريخ، لكنهن صنعنه. تحيةٌ لكل امرأةٍ كسرت قيدًا، لكل من تحملت العنف ولم تصمت، لكل من رفضت الظلم ولم تهادن، لكل من خاضت معارك ليست من أجلها فقط، بل من أجل المجتمع والأجيال القادمة.

وتحيةٌ أيضًا لكل الرجال الذين أدركوا أن النضال النسوي ليس قضية المرأة وحدها، بل قضية كل من يؤمن بالعدالة.

لأن المرأة ليست نصف المجتمع وحسب، بل روحه. وبدونها، سيبقى العالم مساحةً باردةً قبل إنجاز إنصافها والمساواة.

https://hura7.com/?p=46290

الأكثر قراءة