بقلم الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي
المقال كياني عربي غير وحدوي. هو دعوة إلى لبننة “حزب الله”، وكلمة وداع ضرورية للسلطة اللبنانية الفاشلة التي أصبح من واجبها أن ترتاح لصالح جيل جديد. فقد أدّت قسطها من الموبقات.
حقائق بسيطة تؤكد الشراكة الغربية الإسرائيلية الإقليمية المحلية لإحراق لبنان:
- منح الأميركيون الذين يضبطون السياسة اللبنانية ما أسموه “مساعدات إلى الجيش اللبناني وباقي القوى المسلحة” وهي بالكاد تتيح للجيش السيطرة على نوح زعيتر (كمثل، ربما هو أشرف من كل مكوّنات السلطة). بالطبع لا مساعدات تسمح بالدفاع عن لبنان من أي اعتداء. ومن نافل القول أن أميركا ترغب بأن يبقى لبنان مدى حيوياً لإسرائيل. وبناء على ذلك، عليها احتكار مدّ لبنان بالسلاح ما يعني استمرار وضع اليد على الجيش والسياسة اللبنانية ومنع أي منحة أخرى من أين أتت. في نفس الوقت أغمضت أميركا عيونها عن تسليح “حزب الله” في إطار تركيب الخصومة، باستثناء بعض العقوبات الشكلية المالية، وضغطت بقوة على أحوال معيشة اللبنانيين للاستسلام المالي لصندوق النقد الدولي واعتباره المنقذ السياسي قبل الاقتصادي، بحيث يصبح هذا الصندوق مزراب النزيف الذي تمسك به واشنطن. فكل خير في الاقتصاد يصبّ عندها، وربما هي نفسها كانت وراء منح الإيرانيين جوازات السفر اللبنانية عام 1984.
- لم يعد خافياً على أحد ضيق إسرائيل من وجود لبنان في النموذج السياسي والمنافس الاقتصادي، وفيه المرفأ الأكثر أهمية من قناة السويس إلى الداخل العربي، والذي دمّرته مع “حزب الله”. وفيه المطار الذي بدأت تمارينها فيه، وهي مع الأميركيين الأدرى بتفاصيل لبنان من طبيعة ومناخ وسياحة وفندقة وطبابة وجامعات. جميعها مطلوب تعطيلها لتيسير أمور سواها. وعصابة السلطة اللبنانية لم تقصّر في ذلك.
ليس مهمّاً ذكر النظام السوري وتغذيته لكل ما يوتّر الأجواء الداخلية. ومن واجب ردّ الجميل لـ”حزب الله” السماح بمرور الأسلحة الإيرانية وسحب الدولار لصالح نظام “البراميل”. أساساً سوريا لا تعترف بلبنان في بعثها و قبله، وقد عملت وسعها أثناء سيطرتها عليه لإفقاده هويته ولونه.
- حسابات إيران مع أميركا تتجاوز مصالح أبناء المنطقة لتصل إلى الاتفاق النووي ورفع العقوبات عنها والإفراج عن أموال الشاه. لذلك هي جزء من مشهد تشكيل الخصومة التي ترعاها واشنطن. وطالما أن الصراع بعيد آلاف الكيلومترات عن حدودها، وقد سبق أن تقاسمت مع أميركا خيرات العراق من سلطة و نفط و مياه وتفتيت مذهبي في وقت لا تزال مفاوضات مسقط جارية، يمكنها تناول أي موضوع ويبقى التوافق والتوسيع ممكناً سواء من جلد لبنان أو العراق. وسرّ تسليم كاريش لإسرائيل مقابل استبعاد مقتدى الصدر معروف.
أسئلة كثيرة تطرح في مجال الأدوار المحلية. أي مصلحة سمحت لـ”حزب الله” الاحتفاظ بسلاحه لحظة السلم وكانت واشنطن حاضرة فيها بقوة؟ بل بمضاعفته أضعافاً ما سمح بتدمير لبنان (بسبب “حزب الله”) في حربين عبثيتين، والثالثة لم تنته بعد، في حين ما يحكم العلاقة بين لبنان وإسرائيل هو اتفاقية الهدنة لعام 1949؟
لماذا تفجرت كل الأزمات الداخلية فجأة في لبنان: المالية وسيطرة “حزب الله” على الإدارة وتعطيلها؟ هل تعطّل هاتف السفيرة الذي يأمر ويطاع؟ إن عدم أو منع انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان، واستمرار حكومة تصريف أعمال مستقيلة وعاجزة، وحماية كاتم أسرار السلطة السارقة، حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وسلوك “حزب الله” كحزب حاكم يقرر في الشاردة والواردة ويُسكت الأصوات المعارضة، وهو الذي قرّر أن أي تحرّك مطلبي هو أميركي يضرّ بسلطته، في حين كان الأميركي يستجلبه ويغريه ويفاوضه عبر الأخ الأكبر. كلها مغريات تطيّر العقول وتزيد من إحساس التفوّق، خاصة أن “حزب الله” حافظ على خطاب لا تنازل فيه وهذه ذروة المنى.
من يقرر الحرب في الدول؟ هل حزب أو طائفة أو قبيلة ترتبط مرجعيتها بإيران – أي ما فوق دولتية – هي من يتحكّم بهكذا قرار؟ وهي التي حين أفلس اللبنانيون كان جيش الحزب يدفع أموالاً إيرانية “حلال” للبيئة الحاضنة، وينقل الثقل المالي إليه متلاعباً بسعر الصرف ناقلاً إلى الشام الدولار والمازوت. ولعلّ تعيين أمين عام إيراني انتقالي لـ”حزب الله” بعد استشهاد السيد حسن نصرالله دليل على طبيعة العلاقة التبعية لولي الفقيه.
ماذا عن اليوم؟
إن الحرب الأهلية، وجماعة الثنائي ليست غريبة عنها كما سائر القوى الطائفية وغير الطائفية، ساهمت في الصفاء الطائفي والمذهبي. الأمر الذي سمح اليوم بتدمير إجمالي القرى والأحياء الشيعية كعقاب جماعي هو مدان بذاته. لروح ميشال واكد السلام. ضحية براءة العيش الواحد، الذي عرف النضال فعلاً سياسياً لا تجارة عقارات وسطواً على أملاك الغير عبر الترهيب والتخويف. نعم لقد مات كل من أعاق منع الصفاء الطائفي.
إن الموقف السليم اليوم هو عدم التنازل عن شبر واحد من الأراضي اللبنانية. وللصراحة، فإن استدراج الإسرائيليين إلى لبنان لإيقاع الخسائر بهم ليس إنجازاً عسكرياً، بل إمعاناً في المغامرة. ولا بدّ من تضافر جهود كل القوى اللبنانية للدفاع عن الوطن الواحد ضد العدو الواحد، ولا لاستمرار استفراد “حزب الله” بالقرار. وليس من قرار ممكن لدى لبنان غير اتفاقية الهدنة مع إسرائيل للعام 1949.
أما قضية مساندة غزة، فمن فشل إلى آخر حيث لا يصحّ التضامن في قاموس التهوّر ووحدة الساحات إلّا بالتماثل بالدمار. لذا نجحت دمشق و بغداد وطهران حين التزمت لفظياً بوحدة الساحات.
أما البيوت المدمّرة فتلك مسألة أخرى لا يمكن المطالبة سوى بواجب إعادة إعمارها دون مساعدات إيرانية. فكفانا منها أفضالا.
أما النازحون، ولو كان “حزب الله” لا يزال قادراً على تقديم المساعدات المالية، فليمنح فريق الإغاثة ما يكفي لرفع الأضرار عن مواطنين خطف الحزب قرارهم و تسبب لهم بخسارة أرزاقهم. هم ليسوا الحزبيين الذين صدّقوا وهم خير مؤمنين. وليتوقف “حزب الله” عن بثّ الأوهام و شراء الذمم والأرواح. وإذا كان اللبنانيون استقبلوا أهلهم الشيعة فذلك ليس إكراما للحزب المغامر الذي دمّر البلاد بغبائه السياسي وارتهانه مرات عديدة. وليخرج “حزب الله” من ديباجات الزمامير وأصابع النصر والاحتفاظ بالسلاح وخطب التبريك للناس بموتهم وارتقائهم إلى وقت لاحق.
ستبقى إسرائيل عدواً ودون محاكمة نوايا. فهي لم تكسب قوتها إلا من هزال الأنظمة الإرهابية التي حاربتها وآخرها إيران وحزبها في لبنان. إن من أوصلنا إلى هذا الدرك من سلطة فاشلة ومتواطئة لا يمكن أن يستمر ولن يستمر معه لبنان. هم بين عجز وخيانة لذا لا بدّ من بديل وطني لا طائفي ديمقراطي عادل يحمي استقلال لبنان وسيادته.
يمكن أن يشكّل الجيش اللبناني حلّاً ومرحلة عبور من نظام خانع إلى نظام مؤسسات دون أن يدوم وتتعطل الحياة الديمقراطية. ففي صفوف الجيش كفاءات كبيرة شهدت عليها مفاوضات كاريش.
وأخيراً وليس آخراً، لن يرتضي اللبنانيون إذعاناً. والنصر الوحيد الذي حصل للعرب كان على يد جمول الناس. وتهميش الجمول هو سبب الانكسار الحالي. وإن عادت إسرائيل عادت جمول الحقيقية .