بقلم الدكتور بشير عصمت، متخصص في التاريخ الاجتماعي
في واحدة من روائع الأدب الأرمني في القرن 19 قصة قصيرة اسمها “الرفيق بنشوني” تقول ما معناه أنه: ولد للعائلة الميسورة طفل أطلقوا عليه اسم بنشوني، تـأخر في النطق. و حين نطق لم يعد يتوقف عن الكلام، حين كان يُسأل إذا مزّق ثوبه كان يجيب بأنه أصلحه، وإذا أوقع الوعاء أرضاً وكسره يقول صنعته. حاصر مرة أحد رفاقه في المدرسة وأشبعه ضرباً لأنه لم يقتنع معه أن 5 ضرب 5 يساوي 50. هكذا حالنا مع بعض في لبنان. بعضنا يُهزم فيحتفل بالانتصار.
يبدو أنه قد غاب عن أمين حزب الله الجديد، نعيم قاسم، أنه لا يمكنه التشبّه بالأمين العام الراحل مهما بلغ صداحه ارتفاعاً. فلا مجال للمقارنة بين الشخصيتين. ربما كلام الراحل كان أكثر هدوءاً وبلاغة وإفهاماً عدا الشخصية الكاريزمية المبتسمة رغم المسار السياسي الواحد.
ففي ذكرى أربعينية الشهيد نصرالله، كانت ملفتة ثلاثة مطالب للشيخ قاسم: الطلب من الجيش اللبناني تفسيراً عن حادث الاختطاف الذي جرى في منطقة البترون والاعتراف الصريح بما إذا كان حادث البترون اختراقاً أم عجزاً؛ الاستياء الظاهر من التطويع في الجيش وإثارة الشبهات حول هذا الأمر؛ وإيكال الشأن الدبلوماسي إلى رئيس مجلس النواب، نبيه بري، مع قرار الاستمرار في الميدان، مما يشكل شرطاً وسقفاً لأي مفاوضات يمكن أن يقوم بها صاحب التفويض.
إن في هذه اللهجة الإيرانية من “الوقاحة” ما يندى لها الجبين. كون المطلوب بنظر قاسم أن يقرّ الجيش اللبناني بعجزه عن حماية شخص في البترون، وبالتالي حماية الحدود اللبنانية. وربما كان على قاسم الإجابة عن السؤال نفسه مسبقاً في قضية تفجيرات أجهزة الـ”بيجرز” وعن اصطياد قادة حزب الله: هل كان اختراقاً أم عجزاً؟
ليس مهماً نقاش خطاب نعيم قاسم المحشو افتراءات، من محاسبة الجيش اللبناني إلى التطويع المريب بنظره مروراً بغياب السياسة حيث الكلام للميدان. فكل مضمون التأبين الأربعيني، الذي كان يُفترض أن يكون وقوراً، هو أن كلّ ما تمّ هو انتصارات وستتابع. فلا هزيمة واحدة يمكن تسجيلها، حتى سقوط عنصر في القتال هو انتصار له لملاقاته ربه.
من أصول السياسة أن لا يُطلب من طرف التراجع في عز المعركة. وإذا كان ضرورياً رفع المعنويات فليكن. و قد أحجمنا عن قول ما يجب منذ سقوط السيد نصرالله، ونبّه معظم اللبنانيين من مخاطر جبهة الإسناد منذ سنة. لكن في الحياة لا توجد سياسة للسياسة ولا قتالاً للقتال. لا بدّ من أهداف. وأغلب الظن أن المطلوب الذي نراه هو قتال لتخفيف الخسائر. ولا بدّ من إقحام السياسة بقوة درءاً لخطر خيبة الميدان المرجّحة.
من المفيد أن يكون ثمة سياسي ينطق باسم القتال بعد كل ما تم افتعاله وما حلّ بنا. ولكن إيكال الموضوع إلى الرئيس بري وحده أمرغير مفهوم تماماً. فهل لأنه رئيس مجلس النواب أو هو ثاني “الثنائي الوطني”؟ وفي الحالين ثمة احتقار لدولة لبنان المهدّدة جدياً ووجودياً بفعل مغامرات طهران و مصالحها. فالدور رسمياً و دستورياً هو لمن تبقّى من سلطة تنفيذية رغم هزالها، وليس للسلطة التشريعية التي أمعن بري في تهميشها. قد يجوز في أزمة كهذه خلق خلية أزمة تتشاور مع بري والإفادة من تجربته وعلاقاته، ولكن لا يجوز له أن يكون مفاوضاً رسمياً إلّا إذا كان لبنان مسرحاً للقتال بين جنود الشيعة وجيش اليهود، حينها لا معنى لوطن ولا لمؤسسات ولا لدولة.
إن جذرية مشروع نتنياهو لم تكن خافية على أحد و هو خير ممثل لأقصى الطموحات. وكونه بهذه العدوانية فلا يمكن مواجهته بأساطير الصمود و الانتصارات الإلهية “الأكيدة” المزعومة. إن هذه الترهات باتت معروفة والأضرار التي يتمّ إلحاقها بالعدو وكل الناس نرى حجمها كل يوم ونقارنها بمشاعر أهلنا النازحين بمئات الألوف، إلى شمال الأولي حسب مزاج أدرعي، وثم من البقاع والضاحية إلى كافة الأرجاء اللبنانية المعتبرة آمنة. وبالحجم الكارثي لللضحايا الذين لا وجود لهم كأسماء، فهم أرقام وحسب. ولا قيمة للبيوت وعبق تاريخها والذكريات وتعب الناس وجهدهم للخروج من بؤسهم المزمن. ولا بمئات آلاف اللبنانيين المشرّدين في أربع أصقاع الأرض بفعل نضال حزب يكاد يُفقد اللبنانيين وطنهم.
الآتي خطير، ومع انتخاب ترامب نال نتنياهو فترة سماح جديدة وصك براءة عمّا فعل. وكل الفرص مؤاتية لاسرائيل لفرض شروطها على المنطقة وعلى لبنان الذي هو الحلقة الأهم، وهو الأضعف بفعل تدخلات ومصالح إقليمية ودولية. وعليه ستكون الشروط الأكثر قساوة وستتم محاولة إخضاعه ومس سيادته دون شك.
غني عن البيان لماذا سيحمل هوكشتاين أو وريثه إلينا أكثر الشروط قساوة؟ ولا حاجة لذكر مقومات لبنان المقلقة والمزعجة سواء من جامعة، ومستشفى، ومجمّع سياحي وتزلج، وبحار ومطاعم، وعرب وغرب وشرق، ومطار ومرافئ، وكتّاب وجريدة، وحرية وتنوّع ثقافي غني، واحتمال استخراج غاز وانتشار وأدمغة وأدمغة وأدمغة و… هذا اللبنان يُراد له أن يصبح قاطف ليمون في كريات شمونة، وهذا لن يكون .
على أفيخاي وصحبه أن يعرفوا ثلاثة رغم أننا في وضع صعب: فاللبنانيون لن يتركوا أرضهم لأي كان؛ ولن يكون قطاف الليمون مصدراً لعيشهم؛ وأن لا أرض ولا سماء ولا بحر ولا ماء يمكن الحلول بها دون إرادتهم، وتجربة كاريش لن تتكرر.
إن أهل لبنان وقواه السياسية الأساسية تتفق على ثلاثة أيضاً: تأكيد اللحمة اللبنانية وانتظام المؤسسات؛ إعطاء الجيش اللبناني دوراً أولاً إضافة إلى دوره الأصلي؛ وتطبيق الطائف كاملاً غير منقوص.