الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور عبده جميل غصوب، دكتور في الحقوق، بروفسور لدى كليات الحقوق، محام بالاستئناف، مستشار قانوني في الإمارات العربية المتحدة ـ دبي، خبير قانوني دولي معتمد لدى عدة منظمات قانونية دولية.
نتطرق في معرض هذا التعليق الى ثلاث نقاط كان لها تأثير مباشر على القانون رقم 328/2024:
أ ـ توضيح بعض المصطلحات القانونية وتحفّظ المجلس الدستوري التفسيري.
ب ـ المفعول الرجعي للقانون المطعون فيه.
ج ـ إلغاء المادة الخامسة من القانون.
أولاً: توضيح بعض المصطلحات القانونية وتحفّظ المجلس الدستوري التفسيري
ذكرنا في دراستنا السابقة التي تناولنا فيها قانون تعليق المهل رقم 328/2024 (المنشور إلكترونياً في جريدة “الحرة” بيروت، عدد 3 كانون الأول/ديسمبر 2024، وعلى موقع “غوغل” العالمي، على صفحة “الدكتور عبده جميل غصوب”) أن القانون المذكور تضمّن “تشويهاً” لبعض المصطلحات القانونية، فقد استعمل مصطلح “المهل القضائية” في مكانين مختلفين وبمعنيين مختلفين.
فقد فرّق المشترع بين “المهل القانونية والعقدية” المنصوص عنها في الفقرة الأولى من المادة الأولى من القانون، وبين “المهل القضائية” المنصوص عنها في الفقرة الثانية من المادة ذاتها، وحدد تاريخ تعليق مختلف لكل مهلة.
ولكنه عاد واستعمل مصطلح “المهل القضائية” ذاته في المادة الثانية المخصصة للاستثناءات من التعليق، إلا أنه كان واضحاً هذه المرة عندما اتّبع مصطلح “المهل القضائية” تعريفاً لها، فذكر أنها المهل “التي يترك القانون للقاضي أن يقدّرها”.
الحقيقة أن المجلس الدستوري حسناً فعل عندما أوضح هذه المصطلحات وأعطى لها التفسير الصحيح. وهو برأينا التفسير الذي أراده المشترع في القانون رقم 328/2024، قبل الطعن به أمام المجلس الدستوري.
إن المهل القانونية والعقدية لم تثر أي التباس في التفسير. ولكن الالتباس كان يكمن في “المهل القضائية”؛ فالمهل القضائية المقصودة في الفقرة الثانية من المادة الأولى هي “مهل الإجراءات القضائية” (Les délais de procédure) كما ذهب إليه المجلس الستوري بصورة صحيحة. بينما “المهل القضائية” المنصوص عنها في المادة الثانية ضمن الاستثناءات من التعليق، فقد أحسن المشترع التعريف عنها بأنها المهل “التي يترك القانون للقاضي أن يقدّرها”.
وبذلك كنّا قبل الطعن أمام ثلاثة أنواع من المهل:
- المهل القانونية والعقدية.
- مهل الإجراءات أمام المحاكم في النزاعات القضائية.
- المهل القضائية التي يترك القانون للقاضي أن يقدّرها.
وأصبحنا بعد الطعن وصدور قرار المجلس الدستوري أمام نوعين فقط من المهل: “المهل القانونية والعقدية” التي يندرج تحتها “مهل الإجراءات القضائية” التي شملها المجلس الدستوري “بتعليق المهل القانونية”، مستنداً إلى صلاحيته في “تحصين القانون بالتحفظ التفسيري”.
فيكون قانون تعليق المهل رقم 328/2024 بعد صدور قرار المجلس الدستوري رقم 2/2025، تاريخ 16/1/2025، قد أبطل تعليق “سريان جميع المهل القضائية أمام جميع المحاكم بين تاريخ 31 آذار 2022 وتاريخ 30 حزيران 2024″، ليحلّ محله ـ بفعل تحصين القانون بالتحفظ التفسيري ـ تعليق المهل بين تاريخ 8 تشرين الأول 2023 وتاريخ 31 آذار 2025، مبقياً “المهل القضائية التي يترك القانون للقاضي أن يقدّرها”، على حالها ضمن الاستثناءات المنصوص عنها في المادة الثانية من القانون.
وقد علل ذلك المجلس الدستوري بأنه يعود له “تحصين القانون المطعون فيه بالتحفظ التفسيري الذي يزيل أي تناقض أو تباين أو التباس لتدارك عدم وضوح النص والتمكين من فقهه بما ينسجم مع المبادىء الدستورية”، فأدرج “المهل القضائية” المبطلة ضمن المهل القانونية والعقدية المنصوص عنها في المادة الأولى، بحيث لا يبقى من مجال للقول بوجود التناقض، وانتهى المجلس إلى ردّ السبب المبني على التناقض.
من الوجهة القانونية البحتة، فقد تجاوز المجلس الدستوري صلاحيته وأحلّ مهلة محل أخرى، إذ إنه جعل “مهل الإجراءات القضائية أمام المحاكم” تعلّق بين تاريخ 8 تشرين الأول 2023 وتاريخ 31 آذار 2025، بدلاً من تعليقها بين تاريخ 31 آذار 2022 وتاريخ 30 حزيران 2024، مخالفاً بذلك إرادة المشترع الذي شاء اختيار مهلتي تعليق مختلفتين، عبر توحيد المهلتين. وإن صلاحيته لجهة تحصين القانون المطعون فيه بالتحفظ التفسيري، لا تبرر له إطلاقاً إحلال نفسه محل المشترع؛ بل إن صلاحيته المذكورة تبيح له فقط توضيح المصطلحات الثلاثة كما ذكرنا أعلاه وليس إحلال مهلة محل أخرى. وإننا سنعود إلى هذه النقطة الدقيقة عندما نتناول في البند الثاني من هذه الدراسة مسألة المفعول الرجعي للقانون المطعون فيه.
ولكن المهم ـ ومهما كان سبب التعليل ـ أننا أصبحنا أمام مهلة تعليق واحدة بين تاريخ 8 تشرين الأول 2023 وتاريخ 31 آذار 2025 لجميع المهل القانونية، العقدية، ومهل الإجراءات القضائية في النزاعات أمام المحاكم التي أدرجها المجلس الدستوري تحت “المهل القانونية والعقدية”. وهذا ما كان يقتضي على المشترع فعله عندما وضع القانون.
ثانياً: المفعول الرجعي للقانون المطعون فيه رقم 328/2024 (تعليق المهل القانونية والعقدية)
أكّد المجلس الدستوري أن المفعول الرجعي للنصوص القانونية لا يرتقي إلى مصاف “المبادىء الدستورية إلّا في ما خص القوانين الجزائية والضريبية في بعض الحالات”.
أما في المواد الأخرى، فإن “مبدأ عدم رجعية النصوص” يدخل ضمن “المبادىء القانونية العامة” (Principes généraux de Droit).
وتابع المجلس الدستوري أن تعليق “المهل القضائية” بين تاريخ 31 آذار 2022 وتاريخ 30 حزيران 2024، لم يبرر بأية ظروف، ولا توجد على كل حال ظروف استثنائية أو مصلحة عامة تبرره، بدليل أن الأسباب الموجبة للقانون المطعون فيه، اقتصرت على الإشارة إلى الأحداث الاستثنائية التي شهدها لبنان من الثامن من تشرين الأول 2023 والتي حالت بفعل القوة القاهرة المتأتية عنها دون ممارسة الدولة والمواطنين لحقوقهم خلال المهل القانونية والعقدية والقضائية.
وإنه مهما كانت الأسباب وطبيعتها التي أملت على المشترع إقرار القانون المطعون فيه، سواء الواردة في الأسباب الموجبة له أو تلك التي كانت محل نقاش النواب في الجلسة التي أقر فيها هذا القانون، فإنها لا تبرر تعليق المهل على النحو الوارد فيه وللمدة غير المعقولة التي شملها، ما يحمل على القول بوجود عدم تناسب واضح بين هذا التعليق ومقتضياته من جهة، وصون حقوق المواطنين وحمايتها من جهة أخرى، ويجعل هذا القانون مخالفاً للدستور وللمبادىء الدستورية لهذه الجهة، ما يستوجب إبطال الفقرة الثانية من المادة الأولى من القانون المطعون فيه.
ماذا يعني ذلك؟
هذا يعني أن المجلس الدستوري ـ وفي معرض إبطاله للفقرة الثانية من القانون المطعون فيه ـ أضاف سبباً جديداً إلى صلاحيته في “تحصين القانون المطعون فيه بالتحفظ التفسيري الذي يزيل أي تناقض أو تباين أو إلتباس لتدارك عدم وضوح النص والتمكين من فقهه بما ينسجم مع المبادىء الدستورية”، وهو السبب المبني على حصر تبرير رجعية القوانين بالحالة الوحيدة التي يكون “الدافع الوحيد الحقيقي لها المصلحة العامة”. واعتبر المجلس الدستوري أن الأسباب التي أملت على المشترع إقرار القانون المطعون فيه، لا تبرر تعليق المهل المنصوص عنها في الفقرة الثانية من المادة الأولى (المهل المسماة قضائية) على النحو الوارد فيه القانون وللمدة غير المعقولة التي شملها (بين تاريخ 31 آذار 2022 وتاريخ 30 حزيران 2024 )، ما يحمل على القول بوجود عدم تناسب واضح بين هذا التعليق ومقتضياته من جهة، وصون حقوق المواطنين وحمايتها من جهة أخرى، ويجعل هذا القانون ـ حسبما ذهب إليه المجلس الدستوري ـ مخالفاً للدستور وللمبادىء الدستورية لهذه الجهة، لينتهي إلى إبطال الفقرة الثانية المذكورة.
برأينا، إن المجلس الدستوري “أفرط” في التوسع بصلاحياته إلى حد “الاستنسابية” فجعل من ذاته قضاء استنسابياً. وهذا يخرج كلياً عن اختصاصه. بل أكثر من ذلك، نرى أنه تجاوز حتى الاستنسابية ليحل ذاته محل المشترع. فالمشترع هو الذي يمثل إرادة الشعب، ودور المجلس الدستوري يقتصر على رقابته عليه، إذا تجاوز الدستور أو أي قاعدة أخرى ذات قيمة دستورية، لأن المشترع ليس ملزماً فقط باحترام الدستور، بل أيضاً هو ملزم باحترام “الكتلة الدستورية” (Bloc constitutionnel) بالكامل.
ولكن ليس على المجلس الدستوري التحقق مما إذا كانت “الرجعية” دافعها الحقيقي المصلحة العامة أم لا؛ وحده المشترع يقرر ذلك. وإنه إذا أخطأ المشترع في اختيار مهلة غيرمعقولة، بل غير منطقية، كما سبق ووصفناها في تعليقنا السابق، فهذا ليس بحد ذاته سبباً لإبطال القانون.
إن عدم التناسب بين التعليق الحاصل ومقتضياته من جهة وصون حقوق المواطنين وحمايتها من جهة أخرى، يجعل القانون سيئاً، ولكن لا يجعله مخالفاً للدستور وللمبادىء الدستورية.
وحده المشترع يقرر أين تكمن المصلحة الوطنية وكيفية حمايتها، وعلى المشترع أن يكون أكثر دقة في التشريع؛ “فالفوضى التشريعية” التي نعيشها “أورثتنا” قوانين سيئة، ومنها الفقرة الثانية من المادة الأولى من القانون المطعون فيه.
ولكن المجلس الدستوري ليس سلطة رقابة على المجلس النيابي إلّا حصراً عند مخالفة التشريع للدستور أو للقواعد ذات القيمة الدستورية، وإلّا تحوّل إلى قضاء استنسابي وإلى “وصي” على المجلس النيابي الذي يمثل وحده إرادة الشعب. وهذا ما لا يصح إطلاقاً؛ فإصلاح القوانين يكون في اعتماد نهج تشريعي أكثر دقة من قبل المجلس النيابي وليس في تحويل المجلس الدستوري إلى سلطة رقابة عليه خارج إطار مخالفته الدستور أو القواعد ذات القيمة الدستورية، بل إلى “وصاية” تشريعية على “مصدر السلطات”.
إن ما يزيدنا قناعة في انتقاد التعليل الذي اتبعه المجلس الدستوري هو ما ذهب إليه المجلس ذاته عندما أحسن وصف “عدم رجعية القوانين” بأنه “مبدأ عام” (لا نص عنها في لبنان، خلافاً للقانون الفرنسي حيث نصت عنه المادة 2 من القانون المدني الفرنسي) لا قيمة دستورية له.
فالمبادىء العامة تسمو على النصوص التشريعية في هرمية “Kelsen”، ولكن لا يعود للمجلس الدستوري مراقبة مدى انطباق النصوص التشريعية على المبادىء العامة، بل إن صلاحيته تبقى محصورة بانطباق القوانين على الدستور والقواعد ذات القيمة الدستورية.
فإذا كنا نوافق المجلس الدستوري على وجوب تعديل (أو إلغاء) الفقرة الثانية من المادة الأولى لانتفاء ما يبررها، إلّا أننا لا نوافقه لا على التعليل الذي اتبعه في بلوغ النتيجة التي أفضت إلى إلغاء الفقرة المذكورة. ربما الحاجة العملية لقانون تعليق المهل في فترة غير طويلة، حملت المجلس الدستوري على التوسع في صلاحياته إلى حد “الإفراط”. فسوء الفقرة الثانية، كان صادماً. ولكن هذا الوضع لا يبرر إطلاقاً موقف المجلس الدستوري، الذي قد يؤدي إلى إرساء ممارسة لا تقل سوءاً عن سوء النص وهو تحويل ذاته إلى “رقيب” على أعمال المجلس النيابي، بل إلى ممارسة “وصايته” عليه. وهذا غير مقبول قانوناً.
فالمجلس الدستوري لم يكن موفقاً في تعليله لإبطال الفقرة الثانية من المادة الأولى؛ لا عندما استند إلى صلاحيته في تحصين القانون بالتحفظ التفسيري، ولا عندما فرض رقابته على “الرجعية” عبر مراقبة “الدافع الحقيقي” إليها وهو “المصلحة العامة”. وهذا ما شكل تدخلاً مرفوضاً للسلطة القضائية في أعمال السلطة التشريعية وخرقاً لمبدأ فصل السلطات. وهذا يشكل بذاته خرقاً واضحاً للدستور.
ألم يكن من الأفضل إبطال القانون برمته لسبب شكلي (ليس لدينا المعطيات الكافية للتثبت من وجوده)، فيكون المجلس النيابي مضطراً إلى إصدار قانون جديد يتلافى فيه الأخطاء التي شابت القانون المطعون فيه؟
ثالثاً: إلغاء المادة الخامسة من القانون
إستند المجلس الدستوري إلى صلاحيته بوضع يده على القانون المطعون فيه برمته بمجرد تسجيل مراجعة الطعن في القلم لإفساح المجال أمامه لتعديل المادة الخامسة من القانون المطعون فيه التي تنص “أن كل حكم مبرم لم يراع فيه تعليق المهل الملحوظة في هذا القانون، يكون قابلاً لإعادة المحاكمة من تاريخ نفاذ هذا القانون”.
لقد علّل المجلس الدستوري موقفه بان نص المادة الخامسة ينطوي على مفعول رجعي يؤدي إلى إلزام المحاكم بقبول طلبات إعادة المحاكمة بشأن الأحكام المبرمة التي صدرت بتاريخ سابق لتاريخ نفاذ القانون المطعون فيه، ما يشكل تدخلاً في أعمال المحاكم وبالتالي خرقاً لمبدأ فصل السلطات، الذي ينبثق عنه مبدأ استقلال القضاء المكرّس بالمادة 20 من الدستور، الذي لا يجيز للمشترع إجراء رقابته على أحكام القضاء بالمقابل لا يعود أيضاً للمجلس الدستوري إجراء رقابته على القوانين، إلّا عند مخالفتها الدستور والمبادىء الدستورية) أو أن يوجه إليه الأوامر أو التعليمات أو أن يحل محله في الحكم في النزاعات التي تدخل في اختصاصه. وأضاف المجلس الدستوري أن مبدأ فصل السلطات ومبدأ استقلالية القضاء ذات القيمة الدستورية يمنعان أن تتدخل السلطة التشريعية في عمل القضاء، سواء برفع يده عن قضية عالقة أمامه أو إلزامه بإعادة النظر في قضية سبق ونظرها، أو إقرار صلاحياته حيالها، أو إلغاء أحكام قضائية مبرمة، ويجعل القاضي بالتالي بمنأى عن تدخلات السلطة التشريعية أو السلطة التنفيذية، لينتهي إلى اعتبار المادة الخامسة من القانون المطعون فيه، بالإستناد إلى ما تقدم، مخالفة لمبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية ومبدأ استقلالية القضاء ذي القيمة الدستورية وتالياً مستوجبة الإبطال.
لا بدّ بادىء ذي بدء، وقبل التعليق على هذه النقطة، من البوح بأن “أسوأ” ما في القانون رقم 328/2024 المطعون فيه، هو تقريره في المادة الخامسة منه “إعادة المحاكمة” ما يستوجب إلغاء هذه المادة. ولكن كيف؟
لا بدّ من الإشارة إلى أن “درجة السوء العالية” هذه المتمثلة في تقرير “إعادة المحاكمة” لا تتم معالجتها كما ذهب إليه المجلس الدستوري. بادىء ذي بدء يجب “تكييف” (Qualification) المادة الخامسة قانونياً، قبل ولوج الحلول. فالمادة الخامسة المطعون فيها تنطبق عليها المادة الخامسة من قانون أصول المحاكمات المدنية التي تنص على ما يلي: ” تسري قوانين أصول المحاكمات الجديدة فوراً على ما لم يكن قد فصل فيه من الدعاوى أو تمّ من الإجراءات قبل تاريخ العمل بها. وتستثنى من ذلك:
- ………
- ………
- القوانين المنظمة لطرق الطعن بالنسبة لما صدر من الأحكام أو القرارات التحكيمية قبل تاريخ العمل بها متى كانت هذه القوانين ملغية أو منشئة لطريق من تلك الطرق.
فمن خلال التكييف القانوني للمادة الخامسة المذكورة، يمكننا القول أنها مشمولة بالبند 3 من المادة الخامسة من قانون أصول المحاكمات المدنية، لأنها أدخلت شرطاً جديداً إلى شروط إعادة المحاكمة، فتكون “منشئة” لطريق طعن جديدة، إذ إن طريق الطعن يجب أن تفسّر وفقاً للغاية منها، فيكون إدخال شرط جديد إلى شروط إعادة المحاكمة بمثابة “إنشاء” طريق طعن جديد.
فإذا كان المبدأ أن قوانين أصول المحاكمات الجديدة تطبق بصورة فورية (immediate) على ما لم يكن فصل فيه من الدعاوى أو تمّ من الإجراءات قبل تاريخ العمل بها، أي أنها لا تطبق على الدعاوى المفصولة أو الإجراءات المحققة، إلّا أن القوانين المنظمة لطرق الطعن، التي أنشئت بسبب طعن جديد، تستثنى من هذا الحكم، أي أنها تطبق حتى على الدعاوى المفصولة والإجراءات المحققة التي تمت.
فأين نحن من خرق مبدأي فصل السلطات واستقلالية القضاء اللذين استند إليهما المجلس الدستوري؟ وأين نحن من تدخل المشترع في عمل القضاء، طالما أننا في معرض نص تشريعي واضح يجيز للمشترع أن يحدث طريق طعن جديدة ويطبقها حتى على الدعاوى المفصولة بأحكام مبرمة أو على الإجراءات المحققة؟
لقد أخطأ المجلس الدستوري في تعليله المخالف للمادة الخامسة من قانون أصول المحاكمات المدنية وذهب بصورة خاطئة إلى “الاستعانة” بخرق مبدأي فصل السلطات واستقلالية القضاء وتدخل السلطة التشريعية في أعمال السلطة القضائية، توصلاً إلى إبطال المادة الخامسة من القانون المطعون فيه، متجاوزاً أيضاً هذه المرة صلاحياته إلى حدّ “الإفراط” في التفسير، ومخالفته نصوص تشريعية واضحة.
إن “الشر المطلق” المتمثل بالمادة الخامسة من القانون المطعون فيه، لا تتم معالجته بمخالفة القانون، بل بأي طريقة أخرى، فنعود ونكرر عسى أن المجلس الدستوري “فتّش” عن سبب شكلي لإبطال القانون ـ “غير مأسوف عليه” ـ برمّته. فيكون المجلس النيابي مضطراً إلى إصدار قانون جديد، بدون الفقرة الثانية من المادة الأولى والمادة الخامسة من القانون المطعون فيه.
ولكن لا بدّ من الإشارة إلى أن ما أبطله المجلس الدستوري يطال فقط إعادة المحاكمة في الأحكام المبرمة؛ أما الأحكام غير المبرمة، فتبقى خاضعة لطرق الطعن التي تجيز المادة الخامسة من قانون أصول المحاكمات المدنية تطبيقها فوراً ـ وبالاستناد إلى المادة الخامسة من القانون المطعون فيه عن طريق تفسيرها بالحجة المعاكسة (raisonnement a contrario) – إذ إن إبطال المادة الخامسة يطال فقط الأحكام المبرمة، بدون الأحكام الأخرى غير المبرمة، التي تبقى خاضعة للطعن عملاً بالبند 2 من المادة الخامسة من قانون أصول المحاكمات المدنية التي تنص على التطبيق الفوري للقوانين المعدلة للمهل، متى كانت المهلة قد بدأت قبل العمل بهذه القوانين.
ماذا يعني ذلك؟
هذا يعني أن المادة الخامسة من قانون أصول المحاكمات المدنية نصت عن التطبيق الفوري لقوانين أصول المحاكمات المدنية الجديدة، على ما لم يكن قد فصل فيه من الدعاوى أو تمّ من الإجراءات قبل تاريخ العمل بها.
ولكن البند 2 منها استثنى القوانين المعدلة للمهل متى كانت المهلة قد بدأت قبل العمل بها؛ ما يعني أن قانون تعليق المهل رقم 328/2024 يطبق فوراً على الدعاوى التي ما زالت عالقة وعلى الإجراءات التي لم تتم بعد. وبالتالي يمكن الطعن بأي حكم قضائي غير مبرم لم يراع قانون تعليق المهل المذكور، عملاً بقاعدة التطبيق المباشر على الدعاوى التي ما زالت قيد النظر لهذا القانون (المادة الخامسة، بند 2 أ.م.م).
في الخلاصة نقول إن الحاجة الماسة لتعديل “النصوص السيئة”، ومهما بلغت درجة “سوئها”، لا تبرر تعديلها بمخالفة القانون أيضاً.
ونكرر بالنهاية سؤالنا، ألم يكن متاحاً أمام المجلس الدستوري إيجاد سبب شكلي لإبطال القانون برمته عن طريق الرقابة الخارجية عليه، لحمل المجلس النيابي على إصدار قانون جديد بدون الفقرة 2 من المادة الأولى والمادة الخامسة من القانون المطعون فيه.
رغم مآخذنا على قرار المجلس الدستوري، فلا بد من البوح بأن الممارسة العملية ستكون أفضل بعد التعديل، مما كانت عليه قبله. ولكن حذار من مخالفة القانون في دولة القانون، وحذار من استعمال مقولة أن النصوص وجدت لخدمة المجتمع وليس العكس، لأنها لا تعني إطلاقاً أن الحاجة العملية تبرر مخالفة القانون. وهذه مسألة أخرى تتطلب بحثاً جديداً.