الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور عبد الرؤوف سنّو، مؤرّخ وباحث في الشؤون اللبنانية
خلال العقدين الأخيرين، توالت على رئاسة الجمهورية اللبنانية كوارث عديدة. فأثناء حرب لبنان، وفي ظل الاحتلال السوري له، بدأت الرئاسة تتجاذبها أهواء السياسة المحلية والسورية. فحصل أول شغور رئاسي بعد انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميّل في العام 1988، دام حوالى السنة والشهرين، عندما تمرّد قائد الجيش ميشال عون وأعلن عن حكومة عسكرية، في مقابل حكومة مدنية للرئيس سليم الحص حكمت في المناطق الخاضعة للسوري.
وفي تشرين الثاني 1989، انتخب رينه معوّض رئيسًا للبلاد، ثم الياس الهراوي خلفًا له بعد اغتيال الأول. ولم يصبح الهراوي طليق اليدين إلّا بعد القضاء على تمرّد عون. صحيح أن الاستحقاق الرئاسي لم يتعطل تحت مظلة الاحتلال السوري، إلّا أنه كان يدار من عنجر، وكذلك مجلس الوزراء ورئيسه، مجلس النواب ورئيسه، والنواب الهابطين على المجلس بمظلات سورية.
ولم يكتفِ نظام الاحتلال بـ”تعيين” رؤساء الجمهورية والحكومة والمجلس النيابي. وفي ظل بقاء شبح الشغور، عمل النظام السوري على اختراع سياسة التمديد للرؤساء المرضي عنهم؛ من الياس الهراوي إلى إميل لحود، فيما بقي الرئيس برّي المرشّح الوحيد لمجلس النواب من قِبل دمشق وحزب الله منذ العام 2005. أما رفيق الحريري، فحكم بدوره في ظل توزان سعودي-سوري بين العامين 1992 1998، و2000 و2004. وكان بقاء برّي والحريري في السلطة بمثابة تمديد دستوري مقنّع. ولا ننسى التعدّي على قانون الانتخاب بتعديله بمراسيم استثنائية. وقد شهد اللبنانيون فساد الترويكا هراوي-الحريري-برّي التي استمرت حتى العام 1998.
بعد انتهاء ولاية لحود، حصل شغور آخر في رئاسة الجمهورية استمر حتى انتخاب الرئيس ميشال سليمان في أيار 2008، وهذه المرة بعد هيمنة حزب الله على المؤسسات منذ العام 2005. وبعد الرئيس سليمان، عرف لبنان شغورًا رئاسيًا استمر عامين ونصف العام، ومرة ثانية بفضل حزب الله الذي أصرّ على ميشال عون رئيسًا أو لا أحد.
وفي تسوية رئاسية عرّابها حزب الله، جمعت بين عون وسعد الحريري وسمير جعجع (اتفاقا النوايا ومعراب)، انتخب عون رئيسًا للبلاد في 31 تشرين الأول 2016، بعد 46 جلسة برلمانية، أفشلها نبيه بري حليف الحزب. فكان عهد عون/الحريري/برّي بداية انهيار لبنان على كافة الأصعدة. ولم يعد رئيس الجمهورية حامي الدستور الذي ينتهك من دون قيد، ولا حامي الحدود والمجتمع، ولا الحَكَم بين مؤسسات الدولة والضابط لها، بل شريكًا ولاعبًا سياسيًا مع الرئاستين الثانية والثالثة، ومع قوى الفساد الأخرى في الحكم، وعلى رأسها حزب الله.
اليوم، في التاسع من كانون الثاني 2025، وبعد شغور استمر سنتين وثلاثة أشهر، تجري انتخابات جدّية وسط المتغيرات على الأرض، بعد حرب إسرائيل الهمجية على لبنان، وفرار بشار الأسد من الجمهورية التي ورثها عن أبيه حافظ، فضلًا عن تفعيل الولايات المتحدة دبلوماسيتها الضاغطة، وعودة الدور السعودي إلى لبنان، وتحركه المتلازم مع الأميركي.
هناك أمنيات ومطالب محقة للّبنانيين يتوجهون بها لرئيس سيُنتخب اليوم من قِبل مجلس نيابي، أثبت أنه لم يكن ممثلًا لشعب لبنان ولأمانيه:
- المطلوب من فخامة رئيس الجمهورية الجديد الذي اشتقنا لمخاطبته بالاسم والمعنى، ألّا يدخل في المحاصصة الوزارية (أن لا يكون له حصص وزارية) لأنه حَكَم بين المؤسسات وضابط لها ورمز للوطن، وكي لا ينزلق إلى ألاعيب الزواريب الطائفية والحزبية. فعندما لا يكون له وزراء، فلن يضطر أن يدافع عن عدم تأدية مهامهم ومخالفاتهم، فيكون كل الوزراء سواسية أمامه كأعلى سلطة يمكنها أن تحاسب. وهذا ينطبق على رئيسَي مجلسَي النواب والوزراء. وتجربة لبنان، منذ ما قبل عون التي ازدادت في عهده، أثبتت أن اتفاق رئيس الجمهورية بوزرائه، مع رئيس الحكومة مع وزرائه، يعني تغييب مجلس الوزراء، وفرض سياستهما بالقوة.
- ألّا تُخصص وزارات معيّنة لطوائف أو أحزاب معيّنة. فحجم الطائفة ليس مفروضًا أن يُقرن بحجم الوزارة، أو كبرها، أو سياديتها. والوزراء هم أعضاء متساوون يحملون حقائب مختلفة. ومنذ الطائف، بدأت بدعة احتكار وزارات للطوائف الكبيرة، فيصبح الوزير أو حزبه متمسكًا بها، وكأنها ميراث للطائفة. وخطورة ذلك، أن خفايا الوزارة وسراديبها تبقى مجهولة عن القضاء أو عن رئيس الجمهورية.
- ما إن يمارس رئيس الجمهورية مهامه، لا يعود مارونيًا إلّا من ناحية المذهب، ولا ملكًا لطائفته. بل يصبح رئيسًا لكل اللبنانيين. فعليه أن يتعامل معهم بحق وعلى قدم المساواة، وفق الدستور.
- فصل النيابة عن الوزارة، ما يزيد من شفافية العمل. والدستور يتحدث في مقدمته عن فصل السلطات. فالوزير من دون طموح نيابي، تكون لديه مناعة أكبر ويعمل بجدية أكثر ولا يقوم بتوظيف الوزارة لمصلحته النيابية. ويكون للنائب القدرة على محاسبة الوزير في مجلس النواب.
- ألّا يُنتخب رئيس مجلس النواب إلّا لدورتين منفصلتين. لقد ضرب لبنان الرقم القياسي العالمي في عدد سنوات حكم الرئيس برّي لأكثر من 33 سنة. وهذا معيب بحق لبنان، وإن كان يُنتخب من قِبل مجلس النواب، وفق سياسة محاصصة: الحريري-بري.
- تشكيل حكومة عادلة وقادرة، وإن بصلاحيات استثنائية محدّدة، كون المرحلة تتطلب سرعة القرار والتنفيذ والعمل. وأول مهامها وضع قانون انتخابي عصري عادل وأن تطبق الحكومة سياسة اللامركزية الإدارية وفق الطائف.
- أن يعمل الرئيس على إعادة الحياة والقدرات إلى القضاء المستقل، السيّد في قراراته. قضاء نافذ مطلق الصلاحيات بحقّ، ويسري على الجميع، مهما علا شأنه، وتفعيل هيئاته، فسيبقى ضعيفًا، ونعود إلى هيمنة القوى السياسية والحزبية.
- أن يقوم بنزع أسلحة الميليشيات والأحزاب على كافة الأراضي اللبنانية، ليكون الجيش والقوى الأمنية المرجعية العسكرية والأمنية الوحيدة تحت سقف الدولة، ويتم تسليحه بشكل جيد. ويجب تحصين مؤسسات الجيش والقوى الأمنية وإبعادها عن المحاصصات الطائفية والحزبية السابقة. ولا ننسى مكرمة الملك عبد الله في العام 2013 بتسليح الجيش بثلاثة مليارات دولار، وهي التي أفسدها حزب الله. لقد سئمنا، فخامة الرئيس، من حكم الميليشيات، التي تنهب الدولة تارة، وتنهب أموال المودعين، وتتعرض للناس أثناء التعبير عن أنفسهم والتظاهر تارة أخرى. والانتفاضة اللبنانية أكبر شاهد على ذلك، كذلك الاغتيالات السياسية لمن يعترض على هذه الميليشيات.
- ترسيم الحدود بين لبنان وسورية، وتكون بمعابرها والعابرين عليها تحت سلطة الجيش. وكذلك أن ترسم الحدود بين جنوب لبنان ودولة إسرائيل، وفق الشرعية الدولية، وليس وفق احتياجات إسرائيل. ويجب أن يرافق ضبط الحدود مع لبنان حلّ لمسألة اللاجئين السوريين بما يتناسب مع مصالح لبنان الاقتصادية وأوضاعه الاجتماعية، خصوصًا بعد انهيار حكم الأسد.
- ضبط الفساد المستشري في دوائر الدولة ومؤسساتها، وتطبيق المحاسبة و”قانون من أين لك هذا”، واستعادة أموال المودعين المنهوبة في البنوك، ومحاسبة من هرّب أمواله ومن بيّضها، ومن ساعد على ذلك، فضلًا عن كشف كل خفايا الحقبة السابقة، ومحاسبة الفاعلين. علينا أن نشهد محاسبات، كي تصطلح المؤسسات، فيما ينال الشريف والمخلص ثوابه. وعلى فخامتكم العمل على ألّا تقوم منظمة فساد بتحالف السلطة-المافيات. والهندسة المالية التي قامت في العام 2016 بين سعد الحريري وحاكم مصرف لبنان، أسطع مثال على إفلاس لبنان، وتضليل الناس وسرقة ودائعهم. ويجب إلغاء الصناديق الوهمية والجمعيات التي تستفيد منها الأحزاب والزعامات السياسية، وأولها مجلس الجنوب.
- “الرجل المناسب في المكان المناسب”، مقولة محقة. وفخامتكم أدرى بأحوال الإدارة اللبنانية، ومن خرج منها ومن دخل إليها. ولن تستقيم أمور الدولة إلّا بإدارة ناجحة ورقابة إدارية صارمة عليها. بعد العام 2016، تحاصصت كل القوى الوظائف الرسمية والمستقلة، حتى المؤسسات الخاصة فُرض عليها توظيف أتباع الميليشيات والأحزاب. وهذا ما ملأ الوظائف بجهلة، وعطّل العمل وأفلس المالية.
- النهوض بالاقتصاد اللبناني والمجتمع، ووضع خطط اقتصادية ناجحة، خصوصًا مع إمكانية الاستفادة من عائدات النفط والغاز المتوافرين. كما العمل على تحسين الأحوال المعيشية للسكان وللموظفين والرعاية الصحية. فالهرم الاجتماعي أصابه الاختلال، بعدما انضمت الطبقة الوسطى إلى الطبقة الفقيرة. وهذا يتطلب التصحيح، ورفع الرواتب والأجور وإعطاء الحوافز. ويجب الاهتمام بتصحيح عمل قطاعَي الكهرباء والماء والاستفادة من الثروة الشمسية والمائية والهوائية.
- الاهتمام بالتربية الوطنية، والتربية المواطنية والأخلاقية، عبر وضع مناهج تبعد لبنان عن الطائفية المجتمعية، وأن يُكتب التاريخ كما هو، بإيجابياته وسلبياته. وتعزيز التعليم الرسمي الجامعي وما قبل الجامعي. فحرام، فخامة الرئيس، أن تصل حالة الجامعة الوطنية إلى ما هو عليه، بعد أن كانت تنافس علمًا وبحثًا أكبر الجامعات العالمية. وهذا يتطلب تعديل ميزانية وزارة التربية والتعليم العالي. ولمنع قيام أجيال متناقضة ومتناحرة، طائفيًا ومذهبيًا وعشائريًا، يتطلب ذلك ضبط التعليم الخاص وتوجيهه وطنيًا وفق كل البرامج والمناهج التي تعزز اللحمة الوطنية.
- معالجة البطالة من العمل، واستعادة المهاجرين. فنصف الشعب اللبناني أصبح مهاجرًا، والبطالة تفوق الوصف. ولن يعود المهاجرون إلّا في ضوء استتباب أوضاع لبنان مئة بالمئة. فهناك رجال أعمال وموظفون عادوا إلى لبنان بعد الحرب، وصدموا من كوارث البلد حتى تاريخه. فأفلس من أفلس، وصرف مدخراته من لم يجد عملًا ونُهبت ودائعه من قِبل البنوك. ونحتاج إلى برنامج لعودة المهاجرين، وإيجاد فرص عمل للكفاءات، وقد أصبحنا في عصر الذكاء الاصطناعي.
- تحويل السجون المكتظة إلى مؤسسات لإعادة التأهيل النفسي والأخلاقي والمهني، ومحاكمة المساجين الذين لم تصدر بحقهم أحكام. فلا قانون في العالم يسمح بسجن شخص لسنوات من دون محاكمة.
- إنفتاح لبنان على البلدان العربية الشقيقة، والتعلم من التجارب السابقة: كيف أخلّ لبنان في ذلك من قبل، وما دفعه من أثمان باهظة. كل ذلك وفق سيادة لبنان وقراره الوطني. ولبنان اليوم في أمس الحاجة إلى الدعم العربي الاقتصادي والمالي لإعادة الإعمار.
- بعد العمل على ترسيم حدود لبنان مع سورية، والحدود البرية مع دولة إسرائيل، علينا أن ندرس خيار حياد لبنان رسميًا وفق ما تعتمده الأمم المتحدة. فقد دفع لبنان أثمانًا باهظة من جراء تدخلات الدول الإقليمية والدولية منذ الاستقلال. فلبنان “دولة حاجز” بين سورية وإسرائيل والبحر. وأي خلاف بين لبنان وأي منهما، يؤثر في أوضاعه الداخلية، وفي طوائفه، أو الأصح في شعبه. وأفضل الخيارات هو الحياد الذي لا يفصله عن أشقائه العرب، ولا عن الدول الصديقة في العالم.