السبت, فبراير 15, 2025
-1 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

د. عبد الرؤوف سنّو ـ من التجارة إلى الضمّ والتهجير: استراتيجيات ترامب لإعادة رسم خرائط النفوذ

abdelraouf senno

الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور عبد الرؤوف سنّو، مؤرّخ وباحث/تورونتو

ملاحظة: تمّ نشر هذا المقال قبل ساعات معدودة من توقيع الاتفاق بين ترامب وكندا والمكسيك والقاضي بتعليق الإجراءات الجمركية لمدة شهر لإفساح المجال أمام المفاوضات من جديد. 

منذ تسلمه منصبه في البيت الأبيض، بدأ الرئيس دونالد ترامب مشاريع داخلية وخارجية، تُختصر بتخويف العالم منه كخلف قوي لرئيس “ضعيف” هو بايدن. ويعود ذلك إلى عوامل عدة أبرزها سيطرة حزبه الجمهوري على مجلسَي الشيوخ والنواب الأميركيين، ومعنى ذلك أن الحزب أو الرئيس سيتمكن من تنفيذ أجندته كما يشاء وتمرير أي قانون يرغب به دون عوائق أو تسويات. ويعدّ الرئيس الحالي من أكثر السياسيين الأميركيين إثارة للجدل في داخل البلاد وفي خارجها. وهو صاحب سلوك مبتذل بالنسبة إلى معارضيه، والرئيس القادر على قيادة البلاد في ظل أوضاعها المتدهورة، وخصوصًا الاقتصادية منها، بالنسبة إلى مؤيديه الذين اعتقدوا أنه يملك عصا سحرية لحل أزمات البلاد، خاصة أنه أنزل أنصاره لاقتحام مبنى الكونغرس في السادس من كانون الثاني/يناير2021، عندما فشل في السباق إلى البيت الأبيض أمام الرئيس الديمقراطي بايدن. لكن تهويله لم ينجح لتغيير نتيجة الانتخاب، أو ادّعائه أنه تعرّض لمؤامرة سياسية من خصومه. هذه الحادثة، التي لم تشهدها الديمقراطية الأميركية في تاريخها، أعطت ترامب هالة كبيرة بضخامة حجم جسده، بأنه الرئيس الصلب الأرعن الذي لا يتنازل بسهولة، ويتصدى للقضاء الأميركي الذي “يستهدفه” بتهم الرشوة في قضايا انتخابية وجنسية. وقد وُصف بالتاجر، وعُرف بصفقاته المشبوهة واستخدام المال لتحقيق أهدافه. وقد جنى ثروة ضخمة تقدّر بالمليارات من أعماله التجارية والعقارية والفنادق والإعلام والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.

بعد إعادة انتخابه، أصبح ترامب بمثابة فزاعة لما ينتظر الأميركيين والعالم على يده. فكان يكفي أن يهدّد إيران وحزب الله قبل تسلّم منصبه بالقول: “عليكم القبول بوقف إطلاق النار من لبنان ضدّ إسرائيل، ليذعنا لوقف القتال. وهذا ينطبق على غزّة، حين هدد بوجوب إغلاق ملف الرهائن والأسرى قبل دخوله إلى البيت الأبيض، حتى امتثلت له إسرائيل وحماس.

ومن مشاريع ترامب الداخلية، خطوة لاقت شعبية عنصرية، وهي طرد كلّ الأجانب “المشبوهين” (الفقراء) بالجملة من بلاده، في حملة ترحيل قياسية للمهاجرين غير الشرعيين الآتين عبر كندا والمكسيك. وقد أُعلنت حالة الطوارئ على الحدود مع المكسيك، وجرى تعليق رحلات لـ40 ألف أفغاني حصلوا على تأشيرات هجرة خاصة إلى أميركا في الأسابيع الأخيرة من عهد بايدن. ويلقى هذا الموضوع حماسة من قِبل مؤيدي ترامب والجماعات العنصرية.

بعد هذا التقديم، سيتناول المقال ثلاثة مواضيع: الحرب التجارية بين الولايات المتحدة من جهة، والصين وجارتيها كندا والمكسيك من جهة أخرى، وإعلان ترامب عن نيته ضمّ كندا إلى بلاده، وشراء غرينلاند من الدنمارك. وأخيرًا توطين الفلسطينيين الغزاويين في مصر والأردن، وقد سبق أن أشار إلى إندونيسيا وألبانيا كوجهة للفلسطينيين. كما لفت ترامب أكثر من مرة إلى نيته بوضع اليد على قناة بنما.

كندا والمكسيك والصين في مرمى نيران ترامب

بدأت منذ الأول من شباط/فبراير 2025، حرب رسوم تجارية – جمركية متبادلة بين الولايات المتحدة من جهة، وكندا والمكسيك والصين من جهة أخرى، وسوف تمتد الى أوروبا بعد ذلك. والدولتان الأولان هما أكبر شريكين تجاريين للولايات المتحدة. وأعلنت الصين إنها ستطعن بقرار ترامب أمام منظمة التجارة الدولية. ويتهم الرئيس الأميركي الصين والمكسيك بتدفق المخدرات من الأولى إلى بلاده، والمهاجرين من الثانية، فضلًا عن السلع الصينية التي تصنّع في المكسيك أو تصدّر إلى الولايات المتحدة عبرها؛ من السيارات الكهربائية وأجهزة التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.

هذه الأمور الثلاثة التي تضج بها كواليس السياسة والاقتصاد في العالم، تبدو كفيلم هوليودي لعصابة تريد أن تسيطر على العالم بالإكراه. ومنذ انتهاء الثنائية القطبية وتربّع الولايات المتحدة على قمة النظام السياسي والاقتصادي العالمي، وجعل مجلس الأمن الدولي والمنظمات الدولية ألعوبتها، بدأت تطرح بجدية المواضيع الخلافية الثلاثة التي فتحها ترامب، وتظهر مدى تخلّف الرئيس الأميركي وابتعاده عن السلم العالمي ومواثيق الأمم المتحدة والأخلاقية، وكانت بلاده من أوائل الدول التي دافعت عن حقوق الإنسان واعتمدت الديمقراطية. ويُعتقد أن ترامب يريد تمويل حروبه الخارجية القادمة لتحقيق مشاريعه، وأن التذرع بالقبة الحديدية الدفاعية للولايات المتحدة هي لفرض الرسوم على الواردات من الخارج.

إن حرب الرسوم الجمركية بفرض الولايات المتحدة رسومًا على وارداتها من كندا والمكسيك والصين تتراوح بين 10% و25 بالمئة، هي سلاح ذو حدين، بعد تهديد الدولتين (كندا والمكسيك) واشنطن بإجراءات مماثلة. وهذا سيؤدي إلى التضخم ورفع الأسعار وتقويض النمو الاقتصادي العالمي. ومن غير المعروف نتائجها بعد على مستوى الدول والشعوب، أو هل تنتهي بحروب. وأعلن ترودو، رئيس الوزراء الكندي المستقيل الذي يقوم بتصريف الأعمال، أنّ بلاده ستفرض رسومًا جمركية بنسبة 25% على وارداتها من الولايات المتحدة التي تقدّر بأكثر من 155 مليار دولار كندي، وذلك خلال الأيام الـ27 من تاريخ بدء واشنطن حرب الرسوم على التجارة. وبالنسبة إلى المكسيك التي أصبحت أكبر مصدر للسوق الأميركية في العام 2023، بعدما أظهرت تقارير ارتفاع نسبة الاستثمارات الصينية فيها، فضلًا عن بيانات الشحن البحري التي بينت زيادة لافتة في تجارة الحاويات بين الصين والمكسيك، وأنها ازدادت بنسبة 60% في العام التالي. وهذا رفع من هواجس واشنطن بأن المكسيك أصبحت بابًا خلفيًا للسلع الصينية إلى بلادها. صحيح أن الصين زادت من نسبة مشترياتها من الولايات المتحدة 200 مليار دولار، لكن بايدن ثم ترامب، ظلا غير راضيين.

ثروات النفط والغاز في قلب الصراع

وفي موضوع توسيع حدود بلاده على حساب الدنمارك وكندا، فهذا برأينا مشروع ما بعد الإمبريالية الجديدة التي عرفناها منذ القرن التاسع عشر، خاصة أن الحدود بين الدول تحددت منذ الحرب العالمية الثانية، باستثناء إسرائيل، وعدد قليل من الدول في العالم، حيث هناك مجالات نزاع على الحدود والمياه. فالنفط والغاز الموجودين في الدولتين، يثيران شهوانية ترامب، ليس شراء، إنما استحواذًا من خلال ضم كندا وغرينلاند. وصرّح ترامب بغطرسته المعهودة، أنه يريد أن يجعل من كندا الولاية الأميركية رقم 51. ويبدو أن هوسه بالسلطة والحكم والمكاسب الاقتصادية النفطية يتعدى المجال الأميركي ليدخل إلى المجال الحيوي (Lebensraum) الذي يسعى إليه على حساب دول معترف بها وبسيادتها على أراضيها، وهي كاملة العضوية في الأمم المتحدة. وكان هذا كافيًا لردّ عنيف من زعيم الحزب المحافظ في كندا بوليفر، بأنّ بلاده لن تكون أبدًا تلك الولاية الأميركية. وأكّد أنّ بلاده دولة عظيمة ومستقلة وأنها كانت أفضل صديق للأميركيين، وصرفت بلايين الدولارات ومئات الأرواح لمحاربة القاعدة لمصلحة أميركا. ويبقى السؤال: هل يستغل ترامب الصراع التاريخي السلمي بين الفرنكوفون “الكنديين الفرنسيين” والأنغلوفون “الكنديين الإنكليز”، والنزعة الانفصالية في كيبيك ثاني أكبر المقاطعات الكندية التي تدّعي التهميش كأقلية لغوية واقتصادية على مستوى البلاد، لتقسيم كندا؟ حتى الآن هناك فريق كندي من كيبيك مع الرأي بأن ترودو، بدلًا من التسرع بأخذ قرار المجابهة، كان عليه أن يستمع إلى الأميركيين المتضايقين من العبور غير الشرعي من كندا إلى أميركا.

وبالنسبة إلى غرينلاند، التي تمتلك ثروات نفطية وغاز بحري ومعادن، فكانت مستعمرة للدنمارك، وحصلت على الحكم الذاتي. ويحاول ترامب أن ينفذ من خلال الاستفتاء على مصيرها في العام القادم الذي يريده معظم السكان للانفصال عن الدنمارك، ليضمها إلى بلاده. وهكذا يجعل ترامب في وضعية ضم دولتين متباعدتين لأسباب نفطية وغاز: غرينلاند في القطب الشمالي، وكندا التي تقع إلى الجنوب والغرب من غرينلاند عبر مضيق ديفيس Davis Strait وخليج بافين Baffin Bay. وأقرب الأراضي الكندية إلى غرينلاند هي جزيرة إليسمير Ellesmere Island في إقليم نونافوت Nunavut. وفيما يبدو موضوع غرينلاند أسهل للولايات المتحدة بعد الاستفتاء في العام 2025، رفضت رئيسة وزراء الدنمارك فريدريكسن في مكالمة هاتفية مع ترامب بشدة أن تكون غرينلاند “للبيع”، ووصفت المهاتفة بينهما بالفظيعة لشدة تهديدات ترامب بعقوبات على الدنمارك.

تهجير سكان غزة تحت غطاء إعادة الإعمار

والموضوع الأخير الذي يكشف مشروع جنوني لترامب – نتنياهو هو تهجير سكان غزة إلى مصر والأردن، فضلًا عن اقتراح ترامب السابق بأن إندونيسيا وألبانيا وجهة للغزاويين. ويتذرع ترامب أن إعادة إعمار غزة تحتاج من عشر سنوات إلى خمس عشرة سنة، وأن الغزاويين سيكون “توطينهم موقتًا” إلى حين الانتهاء من إعادة بناء وطنهم. إنّ أي عاقل يدرك خبث المشروع لإفراغ غزّة من أهلها وترك إسرائيل تحتلها خالية من شعبها العربي، وسيأتي الدور بذلك بالتأكيد على الضفة الغربية، بعد أن تدمرها إسرائيل. والمسألة ليست في قدرات مصر والأردن على استيعاب آلاف السكان من غزة فحسب، بل لا يمكن فرض تهجير شعب من أرضه إلى أرض أخرى، وإن كانت شقيقة، من دون إرادته. وقد أعلن وزراء خارجية ست دول عربية رفضهم تهجير الشعب الفلسطيني. لكن ترامب يبدو متأكدًا أن ممارسة الضغط على الدولتين العربيتين سيكون أسهل له من شراء غرينلاند وضم كندا، حيث أشار أكثر من مرة أنهما ستقبلان، نظرًا للدعم الأميركي لهما.

نقول للرئيس ترامب الذي انتخبه الأميركيون بنسبة 52%، إنّ المانيا الغربية التي أعيد إعمارها بعد الحرب العالمية الثانية، وفق خطّة مارشال الأميركية، لم تقم على أساس تهجير الألمان الى بلدان أخرى في أثناء فترة الإعمار، بل جرت إعادة الإعمار بسواعد شعبها الذي بقي على أرضه. وكل هذا يؤكد أن ترامب مع إسرائيل يريد تطبيق إمبريالية ما بعد الجديدة، وهي مصادرة حريات الشعوب وقراراها فيما يتعلق بأمنها القومي وحق تقرير مصيرها. لقد سخر ترمب خلال لقائه يترودو أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 2024 من أن رئيس وزراء كندا، هو “حاكم ولاية كندا العظيمة”. ويبدو أنه سيسخر كذلك من حكام غرينلاند بوصفهم صيادي أسماك.

وفي ظل حكم الجمهوريين لمجلسي الكونغرس والنواب، فليس هناك حدودًا لما سيفعله ترامب، أو إلى مدى سيتلاعب بمصائر الشعوب في العالم، في ظل ضعف الروس وانخراطهم في حرب أوكرانيا. ولن يكون التخلص من مشاريعه بوساطة شعبه المنقسم؛ فإذا سار باقي الأميركيين الذين لم ينتخبوه وراء مشروعه، لأسباب اقتصادية داخلية أو عظمة خارجية، فهذا يعني أننا نعيش في “عالم مجنون”. إن بيضة القبان لمجابهة مشروع ترامب هو الآن في أيدي الكنديين والأوروبيين. فإذا خافت “القارة العجوز” من عضلات ترامب، فسوف تخسر، وتصبح أميركا محاذية لها. أما كندا، فمن غير المعروف مستوى التضامن القومي للسكان الفرنكوفونيين والأنغلوفونيين تجاه مشروع ترامب. أما العرب الذين فقدوا بوليصة عروبة فلسطين في حرب غزة التي تمددت إلى الضفة الغربية، فإذا استمروا على هذا المنوال، فسوف يرون فلسطين تتموضع شعبًا في قلب العالم العربي. أما لماذا التهجير إلى مصر والأردن، وليس إلى لبنان وسورية، فهو لأسباب تتعلق بأمن إسرائيل، بألا ترى فلسطيني واحد على حدودها. وبذلك سيصبح حل الدولتين سرابًا بالحلف الأميركي – الإسرائيلي.

وبعد ذلك، لا يزال الأميركيون يعتقدون أنه عليهم أن يقودوا العالم، على أساس إمبراطورية من الكذب والخداع والمراوغة، وتكديس الأسلحة حتى الحلق، من دون ممارسة الدبلوماسية، ومن دون مصلحة مشتركة مع شعبهم. حتى أن الولايات المتحدة أصبحت خارج السيطرة الديمقراطية على مؤسساتها وسياساتها، خاصة مع إمساك الحزب الجمهوري بالمجلسين واختلاق الصراعات التي لا تتوقف في العالم، أي أنها تسلك نفس مسار الاتحاد السوفياتي الذي انهار. سوف تكون نتائج الحروب المتنقلة من أوكرانيا إلى السودان وسورية وفلسطين، والحرب التجارية بين الولايات المتحدة من جهة، والصين وكندا والمكسيك من جهة أخرى وخيمة على الدول الصغيرة والكبيرة في ظل التضخم وارتفاع الأسعار، وكذلك بسبب الضم بالقوة لدول وشعوب. لقد اندلعت الحرب العالمية الثانية بسبب سياسة ألمانيا التوسعية، وضم أراضٍ وشعوب واقتصادات، بعدما غاب الحوار والتفاوض. فهل يوقف أحدهم جنون ترامب، ويصحح مسار السياسة الأميركية، والحضارة الإنسانية نحو التفاهم والسلام، أم يذهب الجميع إلى حرب مدمرة؟

https://hura7.com/?p=43530

 

الأكثر قراءة