الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور عبد الرؤوف سنّو، مؤرّخ وباحث/تورونتو
بعقليته التي تتعاطى التجارة والعقارات والفنادق والإعلام والتكنولوجيا، تحوّل الرئيس ترامب إلى حقل تجاري جديد، وهو الاتجار بالدول والبشر. وهذه المرّة، بالشعب الفلسطيني في غزّة، وبشعوب كندا وغرينلاند وبنما. وهو يريد أن يسلّم القطاع خاليًا من سكّانه إلى إسرائيل، وربما بعد ذلك الضفّة الغربيّة، وفق “صفقة القرن”. ويعلن عن مشروع لجعل قطاع غزّة “لاس فيغس”، مرتعًا فريدًا في الشرق الأوسط للقمار والدعارة.
وفي حين تعتقد غالبية المطلعين على أراء ترامب بأنها تبدو شعوذة وهراء، يرى قلة أن أسلوب الرئيس الأميركي مستوحى من نظريات سياسية وإعلامية تقوم على شن الهجوم على منتقديه وخصومه وتشتيتهم ودفعهم إلى الدفاع، وبالتالي خلق ضجة عالمية تشغل الدول والناس حول شيء قد لا يتحقق. فيصبح ضمّ كندا وغرينلاند وبنما بسبب الخلافات معها على القضايا التجارية، والعجز في الميزان التجاري الأميركي لمصلحتها، لابتزازها والحصول بالتالي على تنازلات منها في قضايا التجارة والتهريب إلى بلاده. وحتى بالنسبة إلى مصر والأردن اللتين وعدتا بمبلغ 500 مليار دولار مقابل توطين الفلسطينيين لديهما.
وربما بسبب تكتيك ترامب، سارعت الصين إلى تقديم شكوى إلى منظمة التجارة الدولية ضد الولايات المتحدة، في حين جنحت كندا والمكسيك إلى تسوية سلمية أدت إلى تعليق موقت للإجراءات الأميركية، وتمثلت بتخصيص الأولى مبلغ ثلاثة مليارات دولار لمنع التهريب عبر حدودها إلى أميركا، ونشر الثانية عشرة ألاف جندي على الحدود مع الولايات المتحدة. وقد كررت رئيسة وزراء الدنمارك أن غرينلاند ليست للبيع. وما أصبح معروفًا أن هناك تنافسًا دوليًا على القطب الشمالي بعد ذوبان الثلوج عنه، وبعدما أصبح يشكل ممرًا تجاريًا دوليًا بريًا حيويًا.
أما بالنسبة إلى غزّة، والدول الأخرى موضوع المقال، تُطرح الأسئلة الآتية: هل يفكر الزعيمان الأميركي والإسرائيلي في مشروع مشترك للقطاع؟ وهل تقبل تل أبيب بتلك الشراكة؟ وهل تنحني كندا والمكسيك وبنما أمام تهديدات وضغوط ترامب، أم أن الرئيس الأميركي يناور ليجعل الدول الثلاث ومعها فلسطينيي غزّة في موقف الدفاع والسعي إلى تسوية ظهرت بوادرها في الأيام الأخيرة، قد يجني منها فوائد له، وربما لإسرائيل؟
وقد شاهد العالم ترامب يتباكى بالأمس الأول أمام وسائل الإعلام، بأنّ “غزّة لم تشهد سوى عقود وعقود من الموت”، وبأنّ “مباني غزّة تنهار وإطلاق النار في كلّ مكان، والقطاع ليس مكانًا آمنًا يمكن العيش فيه”. وبشعور إنساني دافق، لكنه مزيّف، وعد بعاطفة “جيّاشة” إنّ سكان غزّة سيحصلون “على أرض جيدة وجديدة وجميلة.” لكن أي شعب له حضارته وتراثه وتاريخه يرى في أرض أجداده ومولده أجمل أرض في الدنيا. ولا يحتاج الفلسطينيون إلى أرض جديدة غير أرض أجدادهم، وقد بقوا عليها تحت القصف الإسرائيلي الوحشي المدمر. وهنا نسأل: هل الأوروبيون البيض، يا سيد ترامب، الذين سحقوا شعب الهنود الحمر في أميركا، ودمروا جنتهم واستأصلوهم، وأصبحوا فيما بعد الشعب الأميركي، هل يقبلون ضمن منطقكم بجنة “جميلة” أخرى موعودة غير أميركا؟
في تلك المسرحية الإعلامية، أجاد ترامب لعب دور القلِق على الفلسطينيين خشية أن يتعرّض الغزّاويون للأذى من “مخاطر متعدّدة”، بسبب إطلاق النار في القطاع، أو في خلال فترة إعادة الإعمار التي تستغرق بين عشر سنوات وخمس عشرة سنة. وزعم الرئيس التاجر أنّه لا يعني بكلامه أن “تستثمر إسرائيل القطاع بالاستيطان”. هذه المحبة والغيرة على الشعب الفلسطيني تدلان على ثقافته الضحلة من ناحية، وعلى التلاعب بالعقول وتصوير نفسه كصانع للسلام في العالم الذي يريد خاتمة سلمية للصراع الروسي-الأوكراني، والفلسطيني-الإسرائيلي، ووضع التجارة الدولية على أسس أكثر عدالة بالنسبة إلى بلاده، وللجميع، من ناحية أخرى.
وقد يكون ترامب قد تلاعب بمصر والأردن، عندما شجع الفلسطينيين سابقًا على هجرة موقّتة إلى إندونيسيا وألبانيا، ريثما يُعاد إعمار القطاع، “حفاظًا على سلامتهم”. وقد رددت أبواق البيت الأبيض تلك المقولة الكاذبة. لكن لم يحدث في التاريخ، أن شعبًا منكوبًا ومدمرًا ترك أرضه ريثما يتم إعمارها. فألمانيا الغربية الحليفة للولايات المتحدة منذ العام 1945 التي أعيد إعمارها بعد الحرب بمشروع مارشال، بقي شعبها على أرضه، وقام بنفسه بإعادة إعمار بلده، ولم يطلب منه الأميركيون مغادرة البلاد “موقتًا”. ومع ذلك، ألقى ترامب الطعم في مرمى مصر والأردن اللتين أعلنتا، دولة وشعبًا، رفضهما تهجير الفلسطينيين. ثم رمى ترامب في الإعلام خبر تخصيص 250 مليار دولار لكل منهما لقاء التوطين، ما دفع الرئيس السيسي إلى ترتيب موعد لقاء له مع ترامب لاستطلاع حقيقة ربّ البيت الأبيض، فيما سيزور الملك عبد الثاني أميركا قريبًا.
هكذا يتعامل الإمبريالي الصغير الضخم الجثة والجيب مع الدول والشعوب على أنّها سلعة للبيع في مزاد، ويدلّل عليها، فيما الحقيقة أن شهيته متوقدة تجاه كندا لنفطها وغازها؛ وتجاه غرينلاند لأهمّيتها النفطية والمعدنية وكطريق تجاري في القطب الشمالي ومنافسة روسيا التي لديها نصف مساحة المنطقة، فضلًا عن أهميتها الاستراتيجية على مقربة من روسيا وأوروبا حيث تسعى الصين إليها كذلك؛ وتجاه بنما ذات المرفق المائي الاستراتيجي العالمي والتي يبرر ترامب استهدافها بارتفاع الرسوم المفروضة على عبور تجارة بلاده القناة المائية، وبتزايد الوجود النفوذ الصيني هناك. ووفق تقرير لـ”واشنطن بوست” في 3 شباط/ فبراير 2025، تأتي بلاده في المرتبة الأولى من حيث حجم البضائع المصدرة (99.6 مليون طن) والمستوردة (57.4 مليون طن) عبر قناة بنما، وتليها الصين إذ تصدر 23.8 مليون طن وتستورد 21.2 مليون طن عبر القناة نفسها.
استنتاج
نقول لترامب إن كندا وغرينلاند ليستا للضم أو البيع، وألا يفكر بالتلاعب بالخلافات السلمية بين الكنديين الفرنكوفونيين والكنديين الأنغلوفونيين لتحقيق مصالحه. أما غرينلاند التي كانت مستعمرة للدنمارك وأصحبت تحكم ذاتيًا، فشعبها يسعى إلى الاستقلال عن الدنمارك، لكن ليس ليكون سلعة تباع إلى أميركا. كذلك، فشعب فلسطين ليس للبيع أو للتهجير، فمن تعرض منه للقتل بأبشع وحشية غير إنسانية بوساطة القنابل الأميركية من وزن ألفي رطل، لا يخاف الموت، ولن يهجر أرضه ووطنه، ولا يريد كذلك أرضًا جميلة ولا جنّة ترامب. لقد نصب الأخير نفسه مدير مزاد وسمسارًا وقاضيًا على مصالح الدول والشعوب، حتى أنه يريد تحويل قطاع غزّة إلى “لاس فيغس” الشرق الأوسط.
هو مخطّط جهنّمي سبقه إليه سلفه بايدن، بالتآمر مع النظام الصهيوني، لتدمير شعب غزّة وقطاعها. وقد تنكر الديمقراطيون والجمهوريون معًا لاتفاق أوسلو، ولحقّ الفلسطينيين في إقامة دولة على أرضهم، ولحلّ الدولتين، ولأي تسوية تعرض على الأمم المتحدة أو خلف الكواليس، إرضاء لإسرائيل. حتى أن الولايات المتحدة عطلت قرار محكمة العدل الدولية بتوقيف نتنياهو على جرائمه بحق شعب فلسطين وأطفالها ونسائها وشبابها.
إنها وصمة عار في تاريخ ما تُسمى بـ”الديمقراطية الأميركية” التي بدأت بعد استئصال الهنود الحمر وتوطينهم في “معارض” للزائرين والسياح، واستعمال أول قنبلتين ذريتين ضد اليابان في خلال الحرب العالمية الثانية. ولا ننسى في هذه العجالة، قنابل النابالم التي استعملها الأميركيون ضد الفيتناميين لتسميم حقولهم. وقد جعل جنودهم من آذان قتلاهم من الفيتكونغ عقودًا حول رقابهم أمام كاميرات الإعلام. إنها المعايير اللاأخلاقية الكاذبة، فيما يتعلق بالديمقراطية الأميركية، عندما “تحارب” أميركا إيران وتفرض عليها العقوبات ومنع تصدير نفطها بذريعة منع حصولها على سلاح نووي، فيما تسمح لإسرائيل بامتلاك سلاح نووي، وقتل الفلسطينيين واللبنانيين بالجملة بأفتك أنواع الأسلحة. أما شريك الاثنين في الجريمة – المؤامرة ضدّ الإنسانيّة وحقّ الشعوب في أرض أجدادها ووطنها، فهو نتنياهو الذي يحثّ ترامب على اقتلاع الشعب الفلسطيني من غزّة، فيما يستجيب ترامب له برؤية إمبريالية.