بقلم: الدكتور محمد حلاوي، أستاذ جامعي ـ كلية العلوم الاقتصادية في الجامعة اللبنانية
بلغ التصعيد القتالي الميداني والقصف الصاروخي منذ صباح أمس الأحد ذروته، حيث شنّت إسرائيل أعنف غاراتها على ضاحية بيروت الجنوبية، إضافة إلى مناطق عدّة في الجنوب اللبناني والبقاع. بالمقابل شنّ حزب الله أكبر وأعنف هجماته الصاروخية كمّاً ونوعاً على أجزاء كبيرة من المدن الإسرائيلية، وصولاً إلى مدينة تل أبيب وما تمثله من رمزية للقيادة والشعب الإسرائيلي، حيث بلغ عدد الرشقات الصاروخية أكثر من 340 صاروخاً. الأمر الذي دفع ما يقارب أربعة ملايين إسرائيلي للتوجه إلى الغرف المحصنّة، وهي المرة الأولى منذ بدء المواجهات العسكرية في تشرين الأول/أكتوبر 2023. يصاحب ذلك شلل كامل للحياة في معظم المدن الإسرائيلية.
وقد جاء هذا التصعيد الأخير والنوعي من قِبل حزب الله لإرساء معادلة “تل أبيب مقابل بيروت” من جهة، وتفنيداً لادّعاءات المسؤولين العسكريين والأمنيين الإسرائيليين، وعلى رأسهم رئيس الوزراء نتنياهو في خطابه قبل أيام أمام الكنيست، بأنه “تمّ القضاء على 80% من القدرات الصاروخية لحزب الله”.
استهداف العاصمة بيروت
جاءت بداية هذا التصعيد بعد يوم واحد من مغادرة المبعوث الأمريكي آموس هوكشتاين لبنان متوجهاً إلى تل أبيب، حيث استفاقت بيروت فجر السبت الماضي على غارة عنيفة بصواريخ ارتجاجية ضخمة مخلّفة دماراً هائلاً في عدد من أبنية منطقة “البسطا الفوقا” ومتسببة في مجزرة كبيرة من حيث عدد الضحايا.
وقد جاء هذا الاعتداء ترجمةً لما توقّعه معظم الخبراء بأن ردّ نتنياهو على قرار المحكمة الجنائية الدولية سيكون تصعيداً في الميدان وتمادياً في استخدام القوة التدميرية. إضافة إلى أن هذا الاعتداء جاء تزامناً مع تصريحات لمسؤولين في الإدارة الأمريكية مفاده أن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بات قريباً جداً، وأن إسرائيل جدية هذه المرة في الوصول إلى هذا الاتفاق.
غير أن التفاؤل الحذر الذي أشاعته الأوساط الأمريكية لا يمتّ إلى ما تريده إسرائيل بصلة، حيث من الخطأ الاعتقاد أن الأخيرة يمكن أن توقّع على أي اتفاق في هذا التوقيت الزمني بالذات ما لم يكن هناك إقرار من حزب الله بالاستسلام من وجهة نظر الجانب الإسرائيلي. وهذا ما عبّر عنه نتنياهو علناً في خطابه الأسبوع الماضي في الكنيست، مبيّناً أن أي اتفاق يجب أن يتضمن نقاطاً ثلاث:
- تغيير الواقع الأمني والجغرافي شمال الليطاني
- إزالة الصواريخ البالستية لحزب الله من كافة الأراضي اللبنانية
- وقف تزويد حزب الله نهائياً بالأسلاحة عبر الحدود اللبنانية
وعليه، فإن ذهاب إسرائيل لتوقيع أي اتفاق الآن دون الشروط أعلاه سيسمح لحزب الله بإعادة بناء ترسانته الحربية، كما سيُحرج القيادة الإسرائيلية أمام جمهورها الداخلي من حيث الفشل في تحقيق الأهداف الميدانية المعلنة.
بيد أن إقرار حزب الله بالاستسلام، كما يريد نتنياهو، هو أُمنية وحلم القيادة الإسرائيلية اللتان لا يمكن أن يتحققا في المدى المنظور، أو حتى أبداً، حيث أن مبدأ الاستسلام غير موجود في عقيدة حزب الله المرتكزة على “النصر أو الشهادة”. ولأجل ذلك صعّدت إسرائيل من العمليات التدميرية وصولاً إلى الاعتداء على مدينة بيروت من أجل “بثّ” رسائل لعدة جهات وفي اتجاهات مختلفة.
رسائل استخدام القوة
- إلى الداخل الإسرائيلي: يأتي استخدام القوة التدميرية في القرى وصولاً إلى العاصمة اللبنانية بيروت لتغطية عجز خمس فرق عسكرية، وعلى مدى ثمانية أسابيع، من تحقيق إنجازات تليق بالقدرات العسكرية الإسرائيلية مقارنة مع إمكانيات حزب الله العسكرية.
- معاقبة البيئة اللبنانية المستضيفة والمضيفة (النزوح): حيث اعتقدت القيادة الإسرائلية أن البيئة الداخلية اللبنانية مهيّأة للانقضاض على حزب الله وإجراء تغيير سياسي داخلي وإنهاء دوره السياسي. وهذا ما سمعناه على لسان عدد كبير من المسؤولين الإسرائيليين وعلى رأسهم نتنياهو الذي طلب بشكل مباشر من اللبنانين التخلص من حزب الله. كما عوّل الكيان الصهيوني على الفتنة الداخلية من جراء أزمة النزوح، وهذا ما عبّر عنه إيدي كوهين في تغريدة على منصة X بعد لحظات من غارة فجر السبت قائلاً: “إن على اللبنانيين طرد النازحين من أماكن إيوائهم”. إلّا أن حالة الالتفاف الوطني في البيئة الداخلية اللبنانية واحتضان النازحين صدمت القيادة الإسرائيلية، وعليه من الواجب معاقبتها.
- إلى المفاوض اللبناني وإلى حزب الله: من أجل قبول مسودّة الاتفاق كما هي(take it or leave it) بدون أي تعديل. وبعكس ذلك، فإن استخدام القوة سيطال مدينة بيروت بحجة عمليات اغتيال مزعومة أو حتى بدون حجة كما حصل في مار الياس وزقاق البلاط والبسطا. وبذلك تكرّس إسرائيل معادلة جديدة بإلغاء قواعد الاشتباك ألا وهي عدم وجود مكان آمن في لبنان حتى بيروت. متى وأين شاءت إسرائيل ذلك، بحجة الدفاع عن النفس، وعلى العالم أجمع تقبّل هذا الأمر.
- رسالة إلى المحيط (سوريا، العراق، واليمن): من خلال استخدام القوة المفرطة، وهي بمثابة جدار نفسي لعدم مهاجمة إسرائيل من قِبل الحركات والدول العربية والإسلامية الأخرى في المنطقة، حيث نموذجي غزة ولبنان يجب أن يكونا حاضرين أيضاً في أذهان كل من يفكر بالاعتداء على إسرائيل. كما أن صورة الدمار المتواصل ستكون حاضرة في أذهان الدول العربية، حتى تلك التي ستدخل ضمن الاتفاقات الإبراهيمية، ما سيكون له أثر كبير على صياغة اتفاقيات لصالح الكيان الصهيوني.
- رسالة إلى محكمة الجنايات الدولية: تؤكد ثبات الكيان الصهيوني على استخدام القوة المفرطة بحجة الدفاع عن النفس، وعدم الاكتراث لأي من القرارت الدولية والأممية. وبالأخص بعد أن أصدرت المحكمة الجنائية الدولية يوم الخميس الماضي مذكرتي اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، حيث قال المتحدث باسم المحكمة أن هناك “أسباباً منطقية” للاعتقاد بأنهما ارتكبا جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية في قطاع غزة. وكانت المحكمة قد أوضحت أن جرائم الحرب المنسوبة إلى نتنياهو وغالانت تشمل استخدام التجويع سلاحاً للحرب، كما تشمل جرائم ضدّ الإنسانية متمثلة في القتل والاضطهاد وغيرهما من الأفعال غير الإنسانية.
وبذلك تجد إسرائيل نفسها مرة جديدة أمام عزلة رسمية دولية، إضافة إلى إنهاء أي دور سياسي لرئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير الدفاع الأسبق بعد نهاية الحرب.
أخيراً، اعتبرت عدة مصادر أن التصعيد الأخير سببه الاقتراب من الوصول إلى تسوية لوقف إطلاق النار، وأن الأيام المقبلة ستكون صعبة على الجميع وبالأخص على لبنان. وهذا ما بدأ اللبنانيون التماسه بعد التصعيد الناري ابتداء من ظهر يوم أمس الأحد وصولاً إلى الحزام الناري ليلاً على ضاحية بيروت الجنوبية حيث ميزان القوة التدميرية يميل لصالح الكيان الصهيوني والذي، لأول مرة منذ تأسيسه، يدخل حرباً طويلة الأمد دون أن يكون هناك استراتيجية واضحة لكيفية إنهائها، عكس الحروب القصيرة التي توغّل بها سابقاً.
للتواصل مع كاتب المقال: dr_mhalawi@terra.net.lb