الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور محمد حلاوي، أستاذ جامعي – كلية العلوم الاقتصادية في الجامعة اللبنانية
بعد خمس سنوات من هبوب رياح التغيير في تشرين الأول/أكتوبر 2019، تحوّلت هذه الرياح يوم الإثنين الماضي إلى إعصار أطاح بمنظومة عاثت في لبنان فساداً وخراباً على مدى عقود. فأزهرت في السرايا الحكومي “سلاماً” بعد أقل من أسبوع على وصول الـ”عون” المرتجى إلى قصر بعبدا.
ما حصل لم يكن وليد لحظته، إنما جاء نتيجة معاناة تراكمت لدى مختلف أطياف الشعب اللبناني، اتسمت بالشحن الطائفي والمذهبي كما بالزبائنية وخرق الدستور والتسلق عليه، والاستفراد بالسلطة وتفصيل قوانين على قياس المنظومة ومصالحها، بما يؤمّن استمرارها وإمساكها بمفاصل الحياة السياسية اللبنانية.
إستطلاعات إيبسوس وخيارات الشعب
شكّلت اللجنة الخماسية بكافة أعضائها (الأمريكي، الفرنسي، السعودي، القطري، والمصري) حالة ضاغطة غير مسبوقة على كافة أركان المنظومة أدّت إلى انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية اللبنانية، فكانت الشرارة الأولى للتغيير الذي جاء ليعبّر عن مطلب شعبي كبير، حيث أظهر استطلاع للرأي، أجرته شركة إيبسوس (Ipsos) قبل يوم واحد من الانتخابات الرئاسية (الأربعاء 08/01/2025) على عيّنة من ألف شخص، حصول الرئيس جوزيف عون على 61% من الأصوات التي شملها الاستطلاع فيما حصل جميع المرشحين الآخرين، والذين تجاوز عددهم الخمسة عشر، على 39% من هذه الأصوات.
واللافت أيضاً أن استطلاعاً آخر أجرته منظمات عالمية أظهر أن 89% من المسيحيين اللبنانيين يؤيدون وصول الرئيس جوزيف عون إلى قصر بعبدا، فيما اختار 11% منهم فقط باقي المرشحين، بدلالة أن أطيافاً كبيرة من الشعب اللبناني فقدت الأمل بالطبقة السياسية والأحزاب الطائفية التي عجزت عن إنتاج شخصيات ذات انتماء وطني وكفاءة مميزة قادرة على إملاء الشغور في القصر الجمهوري. كما وفشلت هذة المكونات في المحافظة على مقدرات الدولة ما أدّى إلى شللها بشكل تام.
خطاب بعبدا: جواز مرور القاضي سلام إلى السرايا
لم يعتد اللبنانيون على سماعِ خطاب قسم كالذي أدلى به فخامة الرئيس جوزيف عون والذي كان بمثابة بارقة الأمل التي تعطّش لها الشعب اللبناني، حيث حدّد هذا الخطاب رؤية العهد الجديد ورسم خارطة طريق لإعادة بناء الدولة على أساس ما تضمّنه دستور اتفاق الطائف في كافة المجالات: السيادية، الأمنية، السياسية، القضائية، الاقتصادية والاجتماعية. إضافة إلى ما تطرّق إليه هذا الخطاب عن معاناة اللبنانيين من آداء منظومة الميليشيات فساداً وسرقةً وانتهاكاً للحريات والحقوق، كما استهتاراً بأبسط المتطلبات الخدماتية والصحية والاجتماعية، حيث دفع هذا الأداء السيء بالكثير من شابات وشباب لبنان إلى الهجرة بحثاً عن حياة كريمة ومستقبل مضمون.
إن الصدمة الإيجابية التي أحدثها خطاب القسم لدى معظم اللبنانيين أظهرت رفضاً قاطعاً لأن تكون أي من شخصيات المنظومة السياسية الحالية على رأس السلطة التنفيذية، وهذ ما جعل ترشيح القاضي نواف سلام خياراً أساسياً لدى قوى التغيير عامة ونواب التغيير بشكل خاص، إضافة إلى مجموعات الضغط، وهو ما دفعهم، خلال يومين فقط، إلى تأليب الرأي العام من جهة وقيام جمهور قوى المعارضة بالضغط على أحزابهم من جهة أخرى من أجل تحقيق هذا الخيار، بعد أن أجبر قادة تلك الكتل والأحزاب على الاستجابة لإعصار التغيير.
لقد رأى اللبنانون أن عناوين المرحلة القادمة مجسّدة في خطاب القسم، وهذا ما يتطلب قيادات من خارج المحاصصات ومنظومة الفساد، قيادات جريئة حرّة وغير مكبّلة اليدين، فكان تكليف القاضي سلام خياراً حاسماً للانتظام السياسي المطلوب. وبذلك يكون سلام باكورة الإنتاج السياسي اللبناني البحت وأول رئيس وزراء يتربع على عرش السراي الحكومي دون محاصصات طائفية ولا تدخلات دولية. وهو القاضي المثقف والحقوقي العريق، إبن بيروت البار “أم الشرائع”، كما يسميها.
تحديات العهد والتغيير المنشود
لن يكون طريق العهد الجديد معبّداً بالورود، حيث أن الانهيار أصاب كافة مرافق الدولة ناهيك عن التغيرات التي تحدث في المحيط والتي سيكون لها أثر على لبنان لا محالة. غير أن التحدي الأكبر الذي سيواجهه هذا العهد هو سقف الطموح العالي الذي تضمنه خطاب القسم، والذي يقبل الشعب اللبناني بتحقيق الجزء اليسير منه، حيث اعتاد على الوعود الرنانة التي تبقى في خانة الشعارات خدمة للاستهلاك السياسي لا غير.
أضف إلى ما تقدّم تحديات كثيرة أخرى نورد أبرزها:
- إعادة تكوين السلطة بعد تفكك مؤسساتها وشللها.
- الإصلاحات السياسية والدستورية.
- الإصلاحات الإقتصادية وأموال المودعين.
- المحاسبة ومحاربة الفساد.
- التطبيق الكامل لاتفاق الطائف ومعالجة بعض العيوب في بنوده.
- تطبيق اللامركزية الإدارية الموسعة.
- بناء دولة المؤسسات والقانون.
- الإنسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان.
- التطبيق الكامل لاتفاق الهدنة.
- حصرية السلاح بيد الدولة فقط.
- إعادة لبنان إلى الخارطة العالمية والعربية.
- الوصول إلى الحياد الإيجابي.
- إعادة إعمار ما دمرته الحرب الأخيرة وهو بمثابة التحدي الأكبر.
يصعب على العهد الجديد (كما السلطة التنفيذية) التغلب على التحديات الكبيرة التي يواجهها لبنان إلّا باحتضان والتفاف كافة القوى السياسية حوله داعمة لمسيرة التغيير والتعافي. وهذا ما لمّح إليه فخامة الرئيس جوزيف عون عند استقباله وفداً من المجلس الشيعي الأعلى موضحاً بأنه “لا يمكن لمكوّن لبناني أن ينكسر، لأن انكساره يعني انكسار لبنان”. إشارة منه إلى أن المسيرة الجديدة تحتاج تضامن كافة المكوّنات وخصوصاً المكوّن الشيعي.
كما شدد على ذلك دولة الرئيس المكلّف نواف سلام في خطاب التكليف: “إني بفطرتي وتكويني لستُ من أهل الإقصاء بل من أهل الوحدة، ولا من أهل الإستبعاد بل من أهل الشراكة الوطنيّة، ويداي ممدودتان للجميع من أجل البدء بالإصلاح كي لا يشعر أي مواطن بالتهميش”.
أخيراً، فإن مسار التغيير بدأ ولن يتوقّف، وما قام به شابات وشباب لبنان يوم التاسع عشر من تشرين الأول/أكتوبر 2019 أدّى إلى وصول جيش الوطن إلى قصر بعبدا كدلالة للأمن وحماية الجمهورية، كما أدّى إلى وصول أعلى رتبة قضائية في المحكمة الدولية إلى السرايا رافعة شعار العدل والعدالة، مبشرة بوطن خالٍ من الفساد، وبتغيير حتمي كما ورد في الجملة الأولى من خطاب التكليف: “هذا ليس مجرد تكليف لي، بل دعوى لتحقيق تطلعاتكم ولاسيما الشابات والشباب منكم، تطلعات التغيير”.
ويبقى القانون الإنتخابي الضمانة الوحيدة لتمثيل حقيقي ووطني وإيصال كفاءات مميزة إلى داخل القبة البرلمانية، قادرة على صياغة قوانين وتشريعات تؤمّن بناء دولة القانون والمؤسسات، ودولة المواطنة خير إنجاز وأفضل تغيير للعهد الجديد.