الإثنين, يناير 20, 2025
0.1 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

د. محمد حلاوي – مفاوضات “تحت النار”: سلاح إسرائيل الخفي في وجه غزة ولبنان

بقلم: الدكتور محمد حلاوي، أستاذ جامعي – كلية العلوم الاقتصادية في الجامعة اللبنانية

نوضح بداية أن معالجة الموضوع ستعتمد المنظور الأكاديمي إستناداً إلى ثوابت وأركان عِلم التفاوض، وأثرها على نجاح أو فشل المفاوضات الدائرة بين أطراف النزاع.

منذ السابع من أكتوبر 2023 لعبت دولة قطر دور الوسيط الرئيسي في عملية التفاوض بين إسرائيل ومنظمة حماس لإطلاق المحتجزين لدى حماس مقابل إطلاق أسرى فلسطينيين في سجون الاحتلال، يعاونها بذلك وسيط مصري بهدف تسهيل وتسريع عملية التفاوض تلك.

ويُعرف دور الوسيط (Mediator) في القاموس العلمي للتفاوض بالقدرة على تقريب وجهات النظر بين فريقين مختلفين، لا يريدان الذهاب إلى المحافل القضائية المحلية أو الدولية، بغية “تسريع” الحل على عكس ما يحصل في القضاء. وتجدر الإشارة هنا إلى أن قرارت الوسيط “غير مُلزمة” لطرفي المفاوضات.

إلّا أن موضوع المفاوضات بين إسرائيل وحماس، والتي تهدف إلى صفقة تبادل كبيرة جداً، تطوّر إلى ربط موضوع صفقة التبادل بالتفاوض السياسي على أمور أبعد من ذلك، ليشمل حلاً سياسياً واسعاً، ألا وهو اليوم الذي سيلي الحرب (مصير حماس في غزة)، بطريقة غير معلنة.

وهنا يكمن “الخطأ الأول” الذي وقعت به دولة قطر، وهو قبولها بإضافة الموضوع السياسي إلى صفقة التبادل. الأمر الذي يتعدّى دور الوساطة ويحتاج إلى تدخل منظمات أممية قادرة على فرض الحلول السياسية وفضّ النزاعات عبر قرارات أممية تتجاوز مهمة الوسيط نفسه. 

مفاوضات في أجواء الهدنة ومفاوضات تحت  النار

الفرق كبير وجذري بينهما. حيث أن الصفقات الكبيرة والتي تهدف إلى حلّ سياسي شامل أو إلى عمليات تبادل كبيرة لأعداد الأسرى تتطلب مفاوضات تجري في ظل هدنة لفترة زمنية مقبولة، أسابيع أو حتى أشهر، لضمان نجاحها. تماماً كما حصل في صفقات تبادل كل من الأسير جلعاد شاليط وعميد الأسرى اللبنانيين، الأسير سمير القنطار، على سبيل المثال لا الحصر.

  1. صفقة شاليط: تضمّنت إفراج إسرائيل عن 1027 أسيراً فلسطينياً (من بينهم يحيى السنوار) مقابل أن تفرج حركة حماس عن الجندي الإسرائيلي الأسير جلعاد شاليط، وهو الذي احتجزته في مدينة غزة لمدة تزيد عن الخمس سنوات، جرت خلالها حربان بين الطرفين قبل أن يتمّ الإعلان عن التوصل لهذه الصفقة في 11 أكتوبر 2011 بوساطة مصرية.
  2. صفقة القنطار: تمّ بموجبها يوم 16 يوليو 2008 إطلاق سراح الإسرائيليَين الأسيرَين لدى حزب الله وجثث جنديَين إسرائيليَين آخرَين، مقابل الإفراج عن أربعة أسرى لبنانيين على رأسهم سمير القنطار، وتسليم رفات 200 فلسطينياً ولبنانياً. أي أن هذه الصفقة تمّت بعد عامين على توقيع القرار 1701، وتحديداً في أغسطس 2006، والذي ينص على “وقف الأعمال القتالية” بين لبنان وإسرائيل أثناء حرب تموز 2006 والتي اندلعت بسبب عملية أسر الجنود الإسرائيليين الأربع.

يعود السبب الرئيسي لنجاح الصفقتَين أعلاه إلى جلوس أطراف التفاوض على أرضية ثابتة وبيئة مستقرة نسبياً وليست تحت النار والبارود. وهذا ما مكّن فِرَق التفاوض، إضافة لدور الوسطاء، من تحريك عملية التفاوض بشكل استراتيجي وتكتيكي معاً وتوجيه بوصلتها تجاه الأهداف المرسومة لها بالشكل العلمي والصحيح. حيث لا يُعتبر الوقت أو الزمن عامل ضغط على أي من الطرفين من جهة، ولا وجود لأصوات مدافع تزعج المفاوضين والوسطاء من جهة أخرى.

أما فيما خص المفاوضات تحت النار، والتي تتمحور عادة حول الحالات الإنسانية، فهي تشمل الهدن الزمنية لساعات أو لأيام من أجل إخلاء جرحى أو سحب قتلى، أو من أجل إدخال مساعدات إنسانية، أو حتى من أجل تبادل أسرى نساء وأطفال بأعداد محدودة. وهذا ما نجحت دولة قطر بالقيام به بعد شهر ونصف من بداية عملية طوفان الأقصى من خلال دورها كوسيط رئيسي في عملية التفاوض، حيث وافقت الحكومة الإسرائلية في 22 نوفمبر 2023 على الخطوط العريضة للمرحلة الأولى لاتفاق مع حماس، يتمّ بموجبه إطلاق سراح ما لا يقل عن 50 محتجزاً من النساء والأطفال على مدار 4 أيام، “يسري خلالها وقف للقتال”.

وقد أكّدت حماس التوصل لاتفاق هدنة إنسانية لمدة 4 أيام بجهود قطرية ومصرية، بعد مفاوضات صعبة ومعقّدة. كما أعلنت أنه “يتمّ، بموجب الاتفاق، إدخال مئات شاحنات المساعدات الإنسانية والإغاثية والطبية والوقود لكل مناطق قطاع غزة”. كما “وقف حركة آليات الاحتلال العسكرية المتوغلة في قطاع غزة ووقف إطلاق النار من الطرفين ووقف كل الأعمال العسكرية لجيش الاحتلال في كافة مناطق القطاع”. هذا وتبعت المرحلة الأولى عدة مراحل ناجحة.

قرار مجلس الأمن رقم 1701

ولإظهار الآثار “السلبية” للمفاوضات تحت النار، نتناول كمثال الاتفاق على القرار الأممي رقم 1701 والذي جرى بشكل غير مباشر بين الحكومة اللبنانية وحكومة الكيان الصهيوني، وبوساطة قطرية أيضاً، إضافة إلى أطراف أخرى ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وإنّ ما تمّ التوصل إليه أثناء العمليات القتالية (تحت النار) خير دليل على هشاشة هذا النوع من المفاوضات حيث سارعت الأطراف المتنازعة للقبول بالاتفاق في حين كان طرفا النزاع محرجين ميدانياً. هذا الاتفاق الذي يحمل بين أرقامه وبين تفاصيل بنوده قنابل موقوتة أهمها العلاقة الجدلية بقرارات مجلس الأمن السابقة ذات الصلة، أي القرار رقم 1559 والذي ينص على نزع سلاح المليشيات على كافة الأراضي اللبنانية. في حين أن أحد بنود القرار 1701 تنص على عدم وجود مسلّحين لحزب الله  في جنوب الليطاني حصراً. ما أدّى إلى انفجار أخطر قنبلة موقوته لهذا القرار في الثامن من أكتوبر 2023 (تاريخ اندلاع حرب غزة) ومفاعيلها حتى يومنا هذا.

وعليه تكون قطر قد وقعت في  “الخطأ الثاني” وهو قبولها الاستمرار بالمفاوضات لصفقة بهذا الحجم “أثناء المعارك وتحت النار”، فيما الأمر يتطلب أجواء هادئة ومغايرة عن واقع الحال.

مقاربة علمية أكاديمية مع إسقاط ميداني

سمّيت مفاوضات لأنها تجري على “عدة جولات”. وعندما تحصل هذة الجولات تحت النار تكون أرض المفاوضين “غير صلبة” وشبيهة بالرمال المتحركة تبعاً لتطورات وإنجازات الميدان. وبالتالي يدفع الوسيط الثمن، وهذا مع حصل فعلاً مع دولة قطر.

مما لا شك فيه تأثير الميدان على رُكنين أساسيين للعملية التفاوضية خلال جولات التفاوض: أولاً “سقف التفاوض”، والذي نسمّيه علمياً أعلى مستوى للطموح (Aspiration level)؛ وثانياً على “المستوى الحرِج” الذي لا يتنازل عنه المفاوض، ونسمّيه علمياً (Break point). وبالتالي، يؤثر هذان العاملان على المنطقة المحصورة بين النقاط الحرجة للمفاوضين، والتي يمكن أن يحصل ضمنها الاتفاق (Zone Of Possible Agreement)، ومختصرها ZOPA والتي من الممكن أن ينتج عنها اتفاق سيء أو اتفاق جيدّ لأحد الاطراف (Good Deal or Bad Deal)، وتعتبر العوامل أعلاه نقاطاً أساسية لأي عملية تفاوضية.

بالنسبة لإسرائيل، فقد تناست عدم قدرتها على تحرير المختطفين بعد 13 شهراً من اندلاع طوفان الأقصى، إضافة إلى استمرار المواجهات في قطاع غزة لغاية اليوم. واعتقدت أن انتصاراتها شبه الوهمية من خلال القدرات التدميرية على الأرض وبعض ما حققته في الميدان – كالسيطرة على المعابر، ودخولها مدينة رفح، ومقتل يحيى السنوار (بالصدفة) إضافة إلى التلويح بإدراج جثته على طاولة المفاوضات، وسياسة التجويع، ومنع دخول المساعدات الانسانية، وسحب اعترافها من منظمة الأنروا – هي إنجازات تمكّنها من رفع سقف التفاوض، “بغضّ النظر عن الوصول إلى الهدف الأساسي” واللعب بأركان عملية التفاوض.

وهذا ما يفسّر الشروط الجديدة التي كانت تضيفها في كل جولة من جولات التفاوض، الأمر الذي انعكس على أركان العملية التفاوضية (سقف التفاوض، النقاط الحرجة، ومنطقة الاتفاق) وبالتالي على دور وعمل الوسيط (دولة قطر) ومصداقيته. كما انعكس أيضاً على فريق التفاوض الإسرائيلي نفسه كما أشارت “وكالة الأناضول الإخبارية” في 28 أكتوبر 2024، حيث أعلن أحد كبار أعضاء فريق التفاوض الإسرائيلي على نحو مفاجئ استقالته من منصبه، في ظل تعثّر مباحثات التوصل إلى صفقة لإطلاق سراح الأسرى ووقف إطلاق النار في قطاع غزة، بسبب رفع سقف التفاوض الإسرائيلي بعد كل جلسة مفاوضات. كما انعكس أيضاً على جدية الجانب الفلسطيني وتراجعه عن تنازلات كان قد قدّمها في جولات سابقة.

إنسحاب قطر من دور الوسيط: خطوة جريئة لكن متأخرة

في ظلّ هذه الأجواء غير الجدية من ناحية طرفي النزاع، وبالأخص الطرف الإسرائيلي، ورغم تأخّر دولة قطر باتخاذ القرار الصائب، إلّا أنها أعلنت وبجرأة انسحابها كوسيط من عملية التبادل في العاشر من الشهر الحالي، مصححة الأخطاء التي وقعت فيها، ساعية للحفاظ على مصداقيتها الدولية وسيادتها والدور الإنساني الذي تلعبه في سبيل تحرير الرهائن والأسرى.

ختاماً، إذا كان ما يتمّ تداوله عبر وسائل الإعلام – عن أن ما قامت به دولة قطر جاء “بطلب أمريكي” للضغط على منظمة حماس – صحيحاً، إلّا أنه يتماشى مع استراتيجية إسرائيل التفاوضية. فإضافةً إلى ما يتمتّع به الكيان الصهيوني من وسائل وأسلحة قتل وتدمير ودعم دولي في حرب الإبادة التي يمارسها، حيث تصمت دول كثيرة موثرة ومنظمات أممية عن جرائمه، يضاف اليوم سلاح المفاوضات غير الجدية والرديئة (Dirty Tactics) إلى ترسانة أسلحته وآلات الدمار التي يمتلكها، والتمادي باستخدام أسلوب التفاوض الذي يعتمد التهديد والوعيد (Chicken out)، إضافة إلى أسلوب القضم (Nibble) الذي يعتمد على مبدأ الحصول على تنازلات مجانية من الطرف الآخر.

وربطاً بالحرب الدائرة في جنوب لبنان والزيارات المتعددة للمبعوث الأمريكي آموس هوكشتاين إلى بيروت كوسيط للمفاوضات مع الجانب الإسرائيلي، لا بدّ للحكومة اللبنانية التيقظ والوعي من السقوط المدوي بشظايا سلاح التفاوض الرديء وغير الجدي الذي تمتلكه إسرائيل وتُبدع في استخدامه.

https://hura7.com/?p=36903

الأكثر قراءة