مقدّمة تاريخية
في 28 أيلول (سبتمبر) 1970 انتهى جزء مهمّ من حركة المدّ القومي العربي مع وفاة جمال عبد الناصر بظروف غامضة، وكانت قد تبلورت أبرز نتائج هذه المرحلة بعد ستّ سنوات من خلال اتفاقية كامب دايفيد وإنهاء دور مصر في حمل راية العرب. ما ساعد إسرائيل في كسب أمن حدودها مع مصر حتى يومنا هذا.
وفي 21 نيسان (أبريل) 2003 سقطت بغداد وتمّ إعدام الشهيد صدّام حسين بعد ثلاث سنوات من سقوطها، حيث انتهى معه تهديد إسرائيل عربياً وسادت الفوضى الخلّاقة في بعض الأقطار العربية، تجسّدت بسلسة ثورات ما يسمّى “الربيع العربي” حيث أَطلقت يد إيران لتصل إلى أربع عواصم عربية.
إنتقالاً إلى 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 2004 حيث توفي ياسر عرفات مسموماً ليسقط معه أعلى رموز منظمة التحرير ولتتحوّل السلطة الفلسطينية إلى خاتم بيد الكيان الصهيوني مضمحلّاً دورها إلى ما يشبه شرطة بلدية أو جمعية دفاع مدني ليس أكثر.
ختاماً شهد يوم 14 شباط (فبراير) 2005 اغتيال الشهيد رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان على أثره. هكذا دخل حزب الله الحياة السياسية اللبنانية لأول مرة، لتبدأ معه الشيعية السياسية بمباركة إيرانية، والتي أدّت تدريجياً إلى عزل لبنان عربياً ودولياً، ناهيك عن التسبب بأزمة اقتصادية مفتعلة في العام 2019 أوصلت إلى الانهيار المدوّي الذي لا زال اللبنانيون يئنّون منه حتى الساعة.
أسباب اغتيال نصرالله
أمام سقوط الرموز الأربع المذكورة أعلاه وانكماش الدور العربي في مواجهة إسرائيل، تنامى الدور الإيراني في احتضان حركات المقاومة (حماس، وحزب الله) والذي جاءت نتائجه كالاتي:
أولاً: سيطرة حركة حماس كلّياً على قطاع غزة ما شكّل سكيناً في خاصرة مستعمرات غلاف غزة وما بعدها، مروراً بالتأييد الشعبي المحلي والإقليمي، وصولاً إلى السابع من أكتوبر ومفاعيله.
ثانياً: تعاظم دور المقاومة الإسلامية في لبنان من خلال قدرتها على التحرير في سنة 2000، ونجاحها خلال حرب تموز 2006 في منع الكيان الصهيوني من تحقيق أهدافه، ما حوّل الشهيد السيد حسن نصرالله “أيقونة” للمقاومة، لبنانياً، فلسطينياً، عربياً، وحتى عالمياً. لا بل بات يوصف بأنه “آخر القادة العرب القادر على مواجهة إسرائيل”. ولا تغيب عنّا حرب إسناد غزة التي أعلنها حزب الله من لبنان في الثامن من أكتوبر الماضي ومفاعيلها كافة.
أمام هذة الإنجازات والتطورات التي أثّرت بشكل لافت على سير عمليات التطبيع العربية مع الكيان الصهيوني وفرملتها مؤقتاً، وبالتزامن مع تأخير الإنجاز الاقتصادي الممتدّ من الهند إلى أوروبا عن طريق ميناء حيفا، كان لا بدّ للكيان الصهيوني، ومن ورائه الدول الداعمة وعلى رأسها الولايات المتحدة، استثمار فرصة 7 أكتوبر من خلال بروباغندا قتل الأبرياء وأسر مجموعة من المدنيين والعسكريين.
هذا ما دفع به للذهاب إلى:
١- إنهاء حركة حماس عسكرياً من خلال تصفية أفقية لمقاتليها على مدى عام من الحرب، ناهيك عن قتل 50 ألف فلسطينياً بدم بارد، كي لا يكونوا وقوداً مستقبلية للمقاومة، إضافة إلى تدمير البنية التحتية والأنفاق الخاصة بالحركة.
٢- إستمرار التصفية العامودية لقادة الحركة التي بدأتها إسرائيل في سنة 2004 مع الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة حماس، مروراً بقادة آخرين مثل محمد الضيف (رغم أنه لم يتم تأكيد وفاته) وصولاً إلى اغتيال رئيس المكتب السياسي، الشهيد إسماعيل هنية، في 31/09/2024 في مدينة طهران. ويبدو أن هذه التصفيات لن تتوقف عند هذا الحدّ.
٣- تصفية أفقية وعامودية لكوادر حزب الله منذ 8 أكتوبر بشكل يومي، حيث تخطى عدد الشهداء الـ500 شهيداً حتى أوائل الشهر الحالي، وصولاً إلى أكبر تصفية أفقية من خلال تفجير أجهزة الاتصالات في 18/17 أيلول (سبتمبر) الجاري والتي وصفها الشهيد السيد نصرالله بالخسارة غير المسبوقة.
٤- الاستمرار بالتصفية العامودية التي طالت فؤاد شكر وقادة فرقة الرضوان وأخيرا وليس آخراً الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، والتي فجّرت معها الكثير من التساؤلات حول مدى تورّط إيران في كل ما يدور من أحداث متتالية.
لبنان إلى أين؟
ما بعد 28 أيلول (سبتمبر) الجاري، تاريخ اغتيال نصر الله، لن يكون كما قبله. فالخيارات كثيرة وخطيرة:
١- على مستوى حزب الله، يتمّ العمل على استيعاب الخسارات والصدمات، وإعادة تكوين نفسه والعودة إلى العمل السرّي لتجنّب حالة الاختراق غير المسبوقة ولغياب الثقة بكافة الجهات التي تدّعي الدعم، داخلياً أو خارجياً. ولا يسعه سوى الاستمرار بالمواجهة حيث أن خيار الاستسلام يتناقض وعقيدته. هذا إضافة إلى قدرة الحزب على خلق القيادات البديلة وهو يُشهد له تاريخياً بذلك. وهذا ما عبّر عنه التسجيل الصوتي للشيخ سبيتي في تأبين للسيد نصر الله، إذ من المتوقع أن يكون السيد هاشم صفي الدين خليفة السيد نصرالله.
٢- إستمرار العمليات الإسرائيلية في قطاع غزة كما عمليات القصف والتصفية العامودية والأفقية في لبنان وتأليب بيئة الحزب ضدّه بسبب الدمار والقتل وحركة النزوح. كلّ ذلك من أجل تحقيق الأهداف على المستوى المحلي من حيث عودة سكان الشمال، والتي من الممكن أن تتطلّب غزواً برياً قد يكبّد أثماناً باهظة. ناهيك عن تحقيق أهداف خارجية وهي التي أعلن عنها نتنياهو من الأمم المتحدة، عارضاً صوراً للشرق الأوسط الجديد. “إمّا أبيض أو أسود”، ما يتطلّب وقتاً طويلاً مسبباً معاناة غير مسبوقة للشعب اللبناني الذي يعاني أساساً من ضائقة اقتصادية كبيرة في ظلّ حكومة تصريف أعمال لا تتمتع سوى بقدرات محدودة جداً، كما عبّر رئيسها نجيب ميقاتي في كلمته يوم أمس. إن استمرار الكيان الصهيوني في التصفيات العامودية لحركة حماس وحزب الله وتهديده بقتل أي قيادة جديدة دليل واضح على إصرار هذا الكيان على ضرب ورفض أي عملية تفاوضية مستقبلية مع الطرفين، يليها فرض شروطه على السلطة الفلسطينية والدولة اللبنانية لوقف إطلاق النار دون العودة إلى قياديي حماس وحزب الله لغيابهم عن طاولة المفاوضات.
٣- على المستوى الدولي، ستلعب المفاوضات الأمريكية – الإيرانية، من حيث نجاحها أو فشلها، من جهة ونتائج الانتخابات الأمريكية من جهة اخرى دوراً رئيسياً في تحديد خطر احتمال التوسع الإقليمي للحرب. وبذلك يكون لبنان وشعبه تحت رحمة مصالح الغير وبمصير مجهول لا يعلم به سوى الله.