الحرة بيروت ـ بقلم: الدكتور مصطفى قراعلي – مربط المشرق العربي
حين يصبح السكوت عبئًا، وتُستنزف المدينة بصمتٍ طويل، تصبح اللامركزية أكثر من مجرد مصطلح إداري؛ إنها مشروع إنقاذ حقيقي لطرابلس، التي حُرمت لعقود من حقها في تقرير مصيرها.
ومع اقتراب الانتخابات البلدية في طرابلس، تتزايد الأصوات الداعية إلى تجاوز الخطابات التقليدية والوعود المكرّرة، لصالح مشروع سياسي حقيقي يُعيد للمدينة صوتها المسلوب، ويمنح أهلها حقّ القرار في شؤونهم اليومية. فطرابلس لم تعد تحتمل المزيد من المركزية الخانقة التي حوّلتها إلى مساحة مهمّشة يغيب عنها التخطيط، ويُفرّ منها الشباب، وتُوأد فيها فرص النمو قبل أن ترى النور.
في هذا السياق، تُطرح اللامركزية كركيزة أساسية لمشروع إنمائي وإصلاحي في طرابلس، يجمع بين الأطر الحكومية لتوسيع صلاحيات مجلس البلدية، وبين فهم دقيق للعوائق السياسية، الطائفية، والإدارية التي كبّلت المدينة.
لكن الفرصة اليوم مختلفة. فالتحوّلات في لبنان والمنطقة، وانبثاق ديناميات جديدة داخل البيئة السنية بعد المتغيرات الحاصلة في الجوار السوري، تفتح الباب أمام تحالفات مدنية وكفاءات جديدة وشابة صاعدة من المجتمع الطرابلسي. هذه اللحظة ليست لحظة إدارة أزمة، بل لحظة تأسيس لمسار جديد، يقوم على استثمار علاقات طرابلس السنية في لبنان والخارج، وتفعيل قدراتها الاقتصادية، وتحرير طاقاتها من قبضة نظام المركزية الخانقة، باعتبار ذلك الأساس لأي نهوض مستقبلي حقيقي.
فاللامركزية في طرابلس ليست اليوم تفصيلاً إدارياً، بل رافعة للإنماء، وأداة لاستعادة القرار، ومفتاحًا لمرحلة سياسية جديدة تُنهي العزلة وتفتح أبواب الاستثمار، وتمنح المدينة دورها الطبيعي كقاطرة اقتصادية للشمال… وللبنان.
“طرابلس أولاً”: حملة اللامركزية
الحملة الانتخابية لبلدية طرابلس في 2025 ليست مجرد منافسة بلدية، بل منصة إصلاحية تهدف إلى تحويل طرابلس إلى نموذج وطني لتطبيق اللامركزية. فبفضل امتدادها الطبيعي – من سوريا إلى السعودية – وعلاقاتها التاريخية داخل الطائفة السنية في الخليج العربي وكذلك في تركيا، تمتلك طرابلس فرصة حقيقية لكسر احتكار القرار من قبل المركز، لا عبر الصدام، بل عبر إعادة تشكيل العلاقة بين البلدية ووزارتي الداخلية والمالية.
ما تطرحه حملة “طرابلس أولاً“، التي أطلقها مربط المشرق العربي دعمًا لمرشحين ملتزمين بمشروع اللامركزية في مجلس بلدية طرابلس، ليست برنامجًا في مواجهة أشخاص أو تيارات، بل مقاربة جديدة في إدارة المدينة، تستفيد من ديناميكيات سياسية جديدة على مستوى مجلس الوزراء ورئاسة الجمهورية، حيث تتقاطع المصالح الوطنية مع حاجات المدينة الملحّة.
طرابلس تطالب بإدارة بلديتها على غرار بلديات العالم الغربي، كما في أستراليا، حيث تُدار البلديات كنموذج لحكومات محلية بنظام لا مركزي فعلي، مدعوم من الدولة، وتتمتع بصلاحيات واضحة وفعّالة. لا نريد لامركزية مشوّهة، فارغة من مضمونها، لا تنتج إلا البيروقراطية الضعيفة.
ومن هنا تنطلق أولى النقاط الإصلاحية المطروحة ضمن حملة “طرابلس أولاً” لللامركزية:
- توسيع الصلاحيات الإدارية داخل بلدية طرابلس
لا يمكن لأي إصلاح أن يُؤتي ثماره ما لم تُمنح المدينة القدرة الفعلية على إدارة شؤونها بيدها. فاليوم، لا تزال معظم القرارات المالية الأساسية – مثل صرف الأموال، التوظيف، واستثمار الأملاك العامة – خاضعة لموافقات إدارية معقّدة تصدر عن وزارتي الداخلية والمالية. هذه المركزية الخانقة تُفرغ العمل البلدي من مضمونه، وتحوّل المجالس المنتخبة إلى مجرد وسطاء إداريين بلا قرار، في حين أن المطلوب هو بلدية تملك زمام المبادرة وتتحمّل المسؤولية أمام أهلها لا أمام بيروقراطية العاصمة.
الحل يبدأ بتوسيع صلاحيات بلدية طرابلس من خلال إصدار قرار تنظيمي عن رئيس مجلس الوزراء، يتيح تفويضًا فعليًا للصلاحيات الإدارية والتنفيذية إلى المجلس البلدي. وفي هذا الإطار، تُشكّل بلدية طرابلس نموذجًا وطنيًا متقدّمًا لتطبيق اللامركزية، عبر قيام حكومة محلية ذات سيادة إدارية محدودة، تتولى إدارة شؤون المدينة التنموية والخدماتية ضمن إطار الدولة.
ونحن نطالب بـإدارة محلية حقيقية، تنتقل بموجبها الصلاحيات التنفيذية في مجالات محورية مثل التخطيط العمراني، التعليم المهني الحرفي، الصحة الوقائية، والنقل المحلي إلى المجلس البلدي المنتخب، ليكون هو المرجع الأول في تحديد الأولويات، وصياغة المشاريع، ومتابعة التنفيذ… من داخل طرابلس، لا من مكاتب المركز في بيروت.
- الاستقلال المالي الحقيقي
لا يمكن الحديث عن لامركزية حقيقية من دون استقلال مالي فعلي. فالواقع اليوم أن بلدية طرابلس، كسائر البلديات، تعتمد على حصة غير منتظمة من الصندوق البلدي المستقل، وغالبًا ما تتأخر هذه التحويلات، ما يشلّ قدرة المدينة على التخطيط المسبق والتنفيذ السليم، ويُبقي القرار المالي رهينة لدى المركز.
ومن هنا، تقترح الحملة إنشاء “صندوق طرابلس التنموي المستقل“، بآلية تمويل مزدوجة تضمن الاستدامة والشفافية:
- أولًا: تخصيص نسبة مباشرة من الضرائب والرسوم المحلية التجارية لهذا الصندوق.
- ثانيًا: اعتماد تحويلات منظمة من الخزينة العامة وفق معايير عادلة وواضحة لا تخضع للتجاذب السياسي.
يُدار الصندوق بشفافية كاملة وإشراف محلي مستقل، ويُخصَّص لتمويل مشاريع البنية التحتية، وتحديث الإدارة البلدية، وتفعيل التحوّل الرقمي، بالإضافة إلى دعم الابتكار والمبادرات الشبابية كرافعة للنهوض المحلي.
كما نطالب بتوسيع أدوات التمويل البلدية من خلال:
- تحصيل مباشر للضرائب المحلية دون وساطة المركز.
- استثمار أملاك البلدية المعطّلة وتحويلها إلى أصول منتجة.
- ابتكار أدوات تمويل بديلة مثل السندات التنموية المحلية، أو شراكات استراتيجية مع المصارف التنموية والصناديق العربية.
إن تأسيس هذا الصندوق ليس مجرد خطوة إدارية، بل هو مفتاح الاستقلال المالي الحقيقي. وبدونه، ستبقى البلدية مقيدة حتى وإن مُنحت صلاحيات أوسع على الورق.
- إعادة بناء الثقة ومركزية القرار المحلي
من أبرز التحديات التي تعيق العمل البلدي في طرابلس ليس فقط غياب الصلاحيات أو شحّ التمويل، بل غياب الثقة وتضارب المرجعيات داخل المدينة. فالتعدد في القيادات السنية – السياسية، الدينية، الاقتصادية – غالبًا ما يتحوّل من حالة تنوع إلى حالة تنافس على النفوذ، بدل أن يُترجم إلى تكامل فعّال في خدمة المدينة. والنتيجة؟ تشتيت في القرار، إضعاف في دور المجلس البلدي، وفقدان المواطن لثقته بالمؤسسات المحلية.
لمواجهة هذا الخلل البنيوي، نعرض العمل على مسارين متوازيين:
أولًا: توحيد المرجعيات ضمن مظلة داعمة للامركزية
تدعو حملة “طرابلس أولاً” إلى إنشاء مجلس تنسيقي سني-شمالي يضم شخصيات وقيادات من مختلف المرجعيات الاقتصادية، الروحية، والمجتمع المدني، ويهدف إلى:
- تحييد طرابلس عن الصراعات الفوقية التي تعرقل المسار المحلي.
- تأمين غطاء جامع وموحَّد للمجلس البلدي المنتخب يحميه من التجاذبات.
- دعم اللامركزية كخيار إصلاحي مشترك، لا كساحة لتصفية الحسابات أو التنافس السياسي.
ثانيًا: تفعيل الشراكة مع المجتمع المدني/المحلي
نقترح تشكيل مجلس استشاري دائم من أبناء المدينة، يضم:
- خبراء، شباب، وفاعليات دينية وثقافية ذات حضور في الشأن العام.
- يعمل بالتنسيق مع المجلس البلدي في وضع السياسات العامة ومراقبة الأداء التنفيذي.
كما تطالب حملة “طرابلس أولاً” بإنشاء مجالس أحياء فرعية في مناطق مثل باب التبانة، القبة، باب الرمل وغيرها، تكون منصات محلية:
- تُعبّر عن أولويات السكان.
- ترفع التوصيات التنموية.
- وتشارك في الرقابة المجتمعية على التنفيذ.
لأن العدالة الاجتماعية هي جوهر اللامركزية، نضع في صلب برنامجنا:
- دعم الاقتصاد المحلي من خلال حاضنات أعمال، تعاونيات إنتاجية، ومشاريع تمويل صغير بالتعاون مع منظمات دولية.
- تحويل العمل البلدي إلى محرّك فعلي للعدالة الاجتماعية، لا مجرد إدارة خدمات تقليدية.
هكذا تُبنى الثقة. وهكذا تستعيد طرابلس دورها… بصوت واحد، لا بأصوات متفرقة.
- طرابلس بوابة لا حاجز: استثمار العلاقات السنية في خدمة الاقتصاد المحلي
طرابلس ليست مجرد ضحية للتهميش، بل هي جسر حضاري ومدينة حدودية تتمتع بجذور عميقة في النسيج العربي، وبموقع جغرافي استراتيجي يُؤهّلها لأن تكون قلبًا نابضًا بين لبنان الجديد والجوار الإقليمي – من سوريا المتحوّلة إلى الخليج العربي.
وما تملكه الطائفة السنية في طرابلس من امتداد تاريخي وعلاقات اقتصادية وروحية مع دول الخليج، لا ينبغي أن يبقى مجرّد رصيد رمزي، بل يجب أن يتحوّل إلى رافعة تنموية فعلية عبر خطوات عملية قابلة للتنفيذ.
أولًا: تأسيس “هيئة استثمار طرابلس“
نقترح إنشاء هيئة مستقلة بإشراف رجال أعمال طرابلسيين من المغتربين والخليجيين، تتولى:
- جذب استثمارات مباشرة من دول الخليج إلى المدينة ومحيطها.
- تسويق مشاريع تنموية وصناعية ذات طابع استراتيجي.
- تنسيق الجهود بين القطاعين العام والخاص لتسريع تنفيذ المبادرات.
ثانيًا: إعادة ربط طرابلس بعمقها السوري الطبيعي
نقترح إطلاق شراكات اقتصادية كبرى مع رجال أعمال سوريين، خاصة من حمص وحلب، في مجالات:
- المناطق الصناعية الحرة ذات الامتداد الحدودي.
- الخدمات اللوجستية والمرفئية المتصلة بمرفأ طرابلس.
- التجارة العابرة للحدود التي تعيد لطرابلس دورها كبوابة الشمال.
إن تحويل طرابلس إلى مركز إقليمي للاستثمار والربط الاقتصادي لا يحتاج إلى خوارق، بل إلى:
- قرار سياسي محلي حرّ.
- إدارة بلدية تمتلك الصلاحيات والأدوات.
- خطة مدروسة لبناء علاقات إنتاجية مع الجوار العربي، تقوم على المصالح المشتركة لا على التبعية أو الشعارات.
طرابلس لا تطلب دعمًا… بل شراكة. ولا ترفع شعار الاستنهاض… بل تبادر إليه. فهي اليوم تطالب باللامركزية الحقيقية؛ ولا تقبل بلامركزية “اللحم المجمّد المستورد”، بل تطمح إلى “اللحم البلدي المُذكّى” الذي ينفع الناس ويُغذّي المجتمعات – أي نموذج محلي أصيل، نابع من واقع المدينة والتجارب العالمية من أجل أن يخدم أهلها بفعالية وكرامة.
طرابلس تقود… لا تتبع
إنّ حملة “طرابلس أولاً“، التي أطلقها مربط المشرق العربي دعمًا لمرشحين ملتزمين بمشروع اللامركزية في مجلس بلدية طرابلس، تُعلن اليوم بصوت واضح وواثق أن اللامركزية ليست ترفًا إداريًا ولا تقنية إصلاحية محدودة، بل مشروع إنقاذ وطني شامل يبدأ من المدن المهمّشة – وفي مقدّمتها طرابلس. إنها خطوة تأسيسية لإعادة التوازن إلى لبنان، من خلال نهضة محلية تعيد إلى الناس حقهم في القرار، والتنمية، والمساءلة.
في ظل الانهيارات التي عصفت بالدولة المركزية، باتت طرابلس – بما تملكه من موقع استراتيجي، وامتداد سنيّ عربي، وانفتاح على الجوار – الأكثر أهلية لقيادة هذا التحوّل، وتقديم أول نموذج حقيقي لحكم محلي فعّال في لبنان.
وإذا كانت إرادة الناس قد انتصرت بتشكيل حكومة إصلاحية برئاسة نواف سلام، فإننا نعتبر أن مشروع البلدية الجديدة بات ممكنًا وملحًا. ونعمل لتقوم، لائحة اللامركزية، بإيفاد وفد رسمي إلى دولة رئيس الحكومة فور انتخابه الى البلدية، بهدف:
- تفعيل التنسيق المؤسسي بين البلدية ومكتب رئاسة الوزراء.
- أو تأسيس مكتب اللامركزية لطرابلس كمفوّض حكومي مستقل يتابع التنفيذ على الأرض.
“طرابلس أولاً” لا تدعم في هذه المعركة لتملأ مقاعد فارغة، بل لتسعى في إطلاق نموذجًا بديلًا للسلطة المحلية في لبنان. نموذجًا يؤمن بأن طرابلس لا تتبع أحدًا، بل تقود من موقعها، من صوتها، ومن قدرتها على الربط بين الداخل والخارج، بين الدولة والمجتمع، وبين لبنان الجديد وسوريا الجديدة ومنطقة امتدادها الطبيعي.