الحرة بيروت
وجّهت “مبادرة الفرسان اللبنانية”، عبر مكتب رئيسها الدكتور مصطفى قراعلي، رسالة من طرابلس إلى الرئيس المكلّف نواف سلام، في ظل تزايد الإحباط لدى اللبنانيين بشأن تشكيل الحكومة.
أكّدت الرسالة أنّ اللبنانيين يعلّقون آمالهم على تحقيق أولى الخطوات التنفيذية لانطلاق العهد الجديد، مشيرةً إلى أن خطاب القسم لفخامة الرئيس جوزاف عون شكّل رمزاً للتغيير الإيجابي المنتظر على المستويين اللبناني والعربي.
كما توجهت المبادرة الى سعادة الرئيس المكلف نواف سلام مؤكّدة أن إنهاء الطائفية السياسية في الممارسة اللبنانية لم يعد مجرد خيار، بل أصبح ضرورة ملحّة لإنقاذ الوطن. وشدّدت على أن تكرار التجارب الحكومية السابقة، القائمة على المحاصصة، لم يعد مقبولًا ويجب أن يتوقف.
لذلك، شدّدت الرسالة على أنّه من واجبنا الوطني أن نسعى نحو بناء دولة تقوم على أسس بعيدة عن انقسامات الأحزاب الطائفية، باعتبارها خطوة ضرورية لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة لهذا الوطن الجريح. فقط من خلال هذا النهج يمكن تأسيس دولة حديثة ومتقدمة وعادلة تكون عابرة للطوائف.
الثورة ومسار تشكيل الحكومة
كانت الثورة في مراحلها السابقة أول من طالب بحكومة يرأسها الدكتور نواف سلام، إذ خرجت بمطالبها عن إطار الأحزاب الطائفية كافة. وقد شكّلت استقالة الرئيس سعد الحريري في 29 أكتوبر 2019، بعد 13 يومًا من الاحتجاجات التي هزّت لبنان، استجابة أولى لهذه الرسالة الشعبية.
اليوم، يحتاج اللبنانيون من أبناء كلّ الطوائف إلى فرصة حقيقية لنهضة الوطن عبر تشكيل حكومة قادرة على توحيد الصفوف وتجاوز الانقسامات الطائفية على صعيد الدولة. ويتطلب ذلك من الحكومة اللبنانية الجديدة، بما في ذلك تشكيلتها، فكّ الارتباط بين مؤسسات الدولة والأحزاب الطائفية لكلّ الطوائف، بحيث تتجنب الدولة أن تكون “اشتراكية طوائف” أو أن تتبنى أي طابع طائفي في ممارسة سلطتها.
ومن هنا، يمكن معالجة مسألة الميثاق الوطني من منظور يكرّس التعددية الطائفية كإطار فردي، بعيدًا عن نفوذ الأحزاب الطائفية. لذا، لا بدّ من ترسيخ فصلٍ واضح بين السلطة التنفيذية والأحزاب والكتل الطائفية داخل البرلمان.
إلغاء المحاصصة الطائفية
تتزايد الأصوات الصادرة عن الأحزاب والكتل الطائفية للمطالبة بالحفاظ على حصصها الوزارية، بحجة أنها الأكثر نزاهة وشفافية، وكان من أبرز المنادين بذلك رئيس حزب القوات اللبنانية، الدكتور سمير جعجع. غير أن تشبيه هذا النموذج بالممارسة الحزبية في الدول الغربية يتجاهل الواقع اللبناني، حيث تمثّل الأحزاب مصالح طائفية أكثر من كونها تيارات سياسية ذات برامج واضحة تُنتخب على أساسها.
إن اختزال المواطن في طائفته، ثم حصر التمثيل السياسي ضمن الأحزاب الطائفية، يشكّل خللًا هيكلياً يعرقل عملية صنع القرار الحكومي، ويدفع البلاد نحو مزيد من التعطيل والتراجع. فحين تصبح الطائفية جزءًا من القرار الوزاري، يتحوّل التعطيل إلى وسيلة ضغط لاقتسام النفوذ والمغانم باسم عصب طائفة زعيم ذلك الحزب أو تلك الكتلة، ما يفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية، ويقوّض الثقة العربية والدولية بلبنان.
لذلك يتطلب الإصلاح الإداري في لبنان إلغاء أي محاصصة حكومية أو إدارية، بحيث تستند الحكومة الجديدة إلى معايير الكفاءة والشفافية البعيدة عن أي اعتبارات للأحزاب الطائفية، بما يضمن تحقيق العدالة الاجتماعية ووضع أسس دولة حديثة قائمة على العلم والمؤسسات.
شروط عودة السعودية إلى لبنان
أصبح من الواضح اليوم أن المملكة العربية السعودية تسعى إلى استعادة الدور العربي في لبنان، إلا أن عودتها مشروطة بعدم المساهمة في بناء دولة تخضع لهيمنة حزب طائفي كان حتى الأمس القريب منخرطًا في صراعات إقليمية تحت غطاء سلطة بائدة أسقطها شعبها بعد حرب استنزاف طويلة. وهذا الشرط، في جوهره، حق مشروع للمملكة.
تطمح السعودية إلى رؤية لبنان يستعيد دوره التاريخي، حيث يشكّل الدور الوطني للطائفة السنية، بعلاقاتها العربية المتينة، ركيزة أساسية للمرحلة المقبلة، ما يمهّد لانطلاقة العهد الجديد على أسس وطنية متينة.
التغيير في سوريا
تعود سوريا اليوم إلى هويتها التي كانت عليها قبل خمسة عقود، كدولة عربية تعددية تعكس هوية أغلبيتها السكانية العربية السنية، ما يمنحها مفاتيح لتعزيز علاقاتها الأخوية مع الدول العربية، إضافة إلى انفتاحها على العالمين الغربي والدولي.
هذا التغيير في سوريا ليس راديكاليًا يساريًا، كما يبدو التوجه العام في قضية غزة، بل هو تحول تقدّمي عربي، يفتح المجال أمام تحالف عربي “يميني” جديد في المنطقة، لا سيما بعد تراجع التيارات اليسارية الاشتراكية التي كانت فرنسا داعمتها في الحقبات السابقة.
فشل النموذج اليساري في لبنان
يحتاج لبنان إلى حكومة تعمل لصالح شعبه من أبناء الطوائف، بعيدًا عن هيمنة الأحزاب الطائفية التي استخدمت ما يُسمى بـ”التوافقية” – وهي الإشتراكية المتستّرة – لمنح نفسها سلاح الثلث المعطّل، ما أدى إلى تعطيل الوطن نفسه، فيما دفع المواطنون الثمن الأكبر من أزماته.
مع ما يُشاع عن توجهات الرئيس نواف سلام اليسارية خلال عمله في المحاكم الدولية، فإن السياسات اليسارية أو حتى الوسطية منها لم تعد مجدية في هذه المرحلة، إذ لا يمكنها مواكبة خطاب القسم الجديد، الذي يحمل توجهًا سياديًا واضحًا. فلا مجال اليوم لمراعاة الأحزاب التي خاضت حروبًا لم تحقق من خلالها مكاسبها المرجوة، فالتعاطف الحقيقي مع أبناء الطوائف يكون في صون كرامتهم، وليس في التماهي مع سياسات الأحزاب الطائفية التي أوصلتهم إلى القهر والعوز.
داخل السياسات اليسارية، لا يوجد ترتيب لعلاقة مميزة مع أي من الأحزاب الطائفية يصل من خلالها الأمر الى مرحلة تشبه التصور المقبول لدى حلفاء لبنان العرب، وبالتحديد المملكة العربية السعودية، مما يسبب استمرار القطيعة.
لذلك، فمحاولة إرضاء الأحزاب والكتل الطائفية لن تؤدي إلا إلى تشكيل حكومة تفقد الزخم والدعم العربي والدولي المنتظر، بينما المطلوب هو نهج جديد يواكب تطلعات الشعب، بعيدًا عن الحسابات الطائفية الضيقة التي تعيق التقدم والازدهار.
رجل دولة متطرف للبنان
بينما يحطّ الرئيس الجديد لسوريا الانتقالية، السيد أحمد الشرع، في الرياض لإبرام اتفاقيات حول مرحلة الإعمار والتنمية المقبلة، لا يزال لبنان عالقًا في انتظار المخلّص الحكومي القادر على انتشاله من فكرة “حلف الأقليات” البائدة. المطلوب اليوم هو إعادة الاعتبار للدور الوطني لأبناء الطائفة السنية في ترسيخ العلاقات اللبنانية-العربية المستقرة، بما يعيد الثقة إلى الجوار العربي أولًا، ثم إلى المجتمع الدولي.
سعادة الرئيس المكلّف، لبنان فتح صفحة جديدة في تاريخه، وأمامه اليوم فرصة ذهبيّة للالتحاق بركب الانماء والتقدم. لبنان بأمسّ الحاجة إلى حكومة إنقاذ وطني للمرحلة الانتقالية. والفرصة لتحقيق ذلك هي اليوم موجودة بإمتياز.
لقد اكتفى اللبنانيون من “اعتدال” الأحزاب الطائفية الذي لم يؤدِّ إلا إلى الدمار والقطيعة، وهم اليوم يصرخون لقيام رجل دولة يكون متطرّفًا للبنان وحده. فمن طرابلس، قلب ثورة الحرية النابض، نؤكد أن لا خيار سوى تشكيل حكومة غير طائفية المعالم، تبقى خارج إطار الأحزاب الطائفية، وتكون ضمانتها فخامة الرئيس ودولة الرئيس القادم.