الخميس, نوفمبر 6, 2025
23.4 C
Beirut

الأكثر قراءة

إصدارات أسبوعية

ركيزتان أساسيّتان في الدول التعدديّة… الحياد واللامركزية

د. شليطا بو طانيوس

 

جريدة الحرة ـ بيروت

في الدول التي تتّسم بالتعدديّة الإثنيّة، الطائفية أو العرقيّة، لا يمكن قيام دولة قوية وعادلة وقادرة على حماية نفسها وضمان حقوق جميع مكوناتها، من دون الارتكاز على مبدأين أساسيّين: الحياد واللامركزية. هذان الركنان يشكّلان ضمانة فعلية لاستقرار هذه الدول وتماسكها الداخلي، مهما اختلفت تركيبتها المجتمعية.

لبنان هو أحد هذه الدول المتعددة الانتماءات، حيث تتعايش طوائف وإثنيات وشعوب ضمن كيان واحد. ولكي يتمكّن هذا البلد من بناء دولة حقيقية، عادلة وقادرة، لا بد أن يسير أولًا على درب الحياد، تمهيدًا لتطبيق اللامركزية الإدارية الموسّعة، أو أيّ نظام سياسيّ آخر جديد.

حديثنا اليوم يركّز على الحياد، على أن ننتقل لاحقًا إلى اللامركزية. والسؤال الكبير الذي يُطرَح اليوم: لماذا يُعتبر الحياد خيارًا استراتيجيًّا للبنان؟ وما أهمية التزام الدولة اللبنانيّة به على الصّعد السياسيّة، الاقتصاديّة، الاجتماعيّة، الثقافيّة والأمنيّة؟

الحياد ليس خيارًا سهلًا أو موقفًا ظرفيًا، بل هو قرار سيادي كبير يمرّ غالبًا من خلال تجارب قاسية. فمعظم الدول التي انتهجت هذا المسار، عاشت قبله حروبًا أهلية واضطرابات داخلية، وكانت ضحية تدخلات خارجية مزّقت نسيجها الوطني.

لنأخذ سويسرا كمثال حيّ وواضح. هذه الدولة الأوروبيّة الصغيرة نسبيًّا من حيث المساحة، والمحاطة بدول كبرى ذات طموحات ونفوذ (ألمانيا، إيطاليا، فرنسا، النمسا)، مرّت في منتصف القرن التاسع عشر بحرب أهلية، انتهت عام 1848، بإقرار دستور جديد للبلاد، أعلنت فيه حيادها، ما شكّل تحوّلًا جذريًا في تاريخها.

الحياد نقل سويسرا من دولة منقسمة إلى دولة مستقرة، ومن كيان هشّ إلى نموذج عالمي في الديمقراطية والازدهار. هذا الخيار الاستراتيجي، الذي التزمت به بجدّية، لم يعزلها عن العالم، بل فتح لها آفاقًا أوسع، وحوّلها إلى مركز ديبلوماسي واقتصادي دولي.

لبنان، الذي يشبه سويسرا في تركيبته التعدديّة وتاريخه المليء بالتدخلات الخارجية والصراعات الداخلية، عرف في خمسينيّات القرن الماضي بسويسرا الشرق، فما الذي ينقصه ليعود كما كان من جديد؟

على الصعيد السياسي، يشترك لبنان مع سويسرا في كونه بلدًا صغيرًا نسبيًا من حيث المساحة، لكنه غني بتعدديته الدينية والطائفية (18 طائفة)، بل والإثنية أيضًا (فينيقيون، سريان، عرب، أرمن، أكراد…).

هذا التنوّع، إن لم يُدار بحكمة، قد يتحوّل إلى نقطة ضعف، أما إذا ترافَق مع التزام فعلي بمبدأ الحياد، فيُصبح عنصر قوة واستقرار.

حين يلتزم لبنان بالحياد الحقيقي، فإنه يحصّن نفسه من الانخراط في صراعات المحاور الإقليمية والدولية التي تتجاوز حجمه وقدرته. ولنا مثال واقعي وقريب في ما حدث خلال الصراع السوري، خصوصًا بما يتعلق بالطائفة الدرزية.

فقد شهدت الساحة السورية، وخاصة في المناطق ذات الغالبية الدرزية، صراعات داخلية دامية، سواء مع النظام الحالي أو مع البدو. وفي مقابل هذا المشهد المشتعل، اتخذت المرجعيات الدرزية في لبنان، من مشيخة العقل إلى معظم الزعماء السياسيين، قرارًا استباقيًا حكيمًا بتحييد الطائفة الدرزية في لبنان عن التدخل في النزاع السوري.

وقد شكّل هذا القرار نموذجًا فعليًا للحياد الطائفي، إذ ساهم في تجنيب لبنان عواقب أمنية وسياسية خطيرة، ومنع امتداد نار الفتنة إلى الداخل اللبناني. كما وفّر على اللبنانيين عامة، وعلى أبناء الطائفة الدرزيّة خاصة، الكثير من الخسائر في الأرواح والممتلكات، التي كان من الممكن أن تقع لو تورّط لبنان في هذا الصراع.

وهكذا، يظهر جليًّا أن التحييد الواعي والمسؤول يمكن أن يُنقذ بلدًا بأكمله من الانزلاق إلى الفوضى، ويشكّل قاعدة صلبة لبناء سياسة خارجية متّزنة.

وما حصل في الحالة الدرزية هو برهان حيّ على أن الحياد ليس ضعفًا أو تخليًا، بل حكمة عقلانيّة وقوة سياسية وقائية.

ثانيًا، على الصعيد الاقتصادي، فإن الشرط الأساسي لقيام اقتصاد قوي ومزدهر هو الاستقرار، والاستقرار السياسي تحديدًا.

وفي الحالة اللبنانية، يُعدّ الحياد من أبرز شروط تحقيق هذا الاستقرار، لأنه يجنّب البلاد التقلّبات الأمنية والسياسية الناتجة عن الانخراط في صراعات خارجية.

فجذب الاستثمارات الخارجية، وتنشيط السياحة، والنهوض بالقطاعات الإنتاجية (زراعة، صناعة، تجارة) يتطلّب بيئة آمنة ومناخًا سياسيًا مستقرًا.

ومن دون ذلك، تبقى كل محاولات الإنعاش الاقتصادي مجرد أمنيات غير قابلة للتحقق.

إن اعتماد الحياد الفعلي من شأنه أن يؤمّن هذه البيئة المستقرة، ويعيد الثقة بلبنان كمركز استثماري وسياحي.

ولعلّنا نأخذ مثالًا صارخًا على ما نخسره بسبب غياب هذا الاستقرار: وفد رجال الأعمال السعوديين (120 رجل) المتواجد في سوريا لإجراء دراسات فعلية مع الحكومة السوريّة لمشاريع استثمارية كبرى بقيمة مليارات الدولارات.

وهنا يُطرح السؤال المشروع: لماذا نخسر هذه الفرص؟ ولماذا لا يكون لبنان هو المحطة الأساسية لمثل هذه الاستثمارات كما كان قبلًا؟

الجواب واضح: لأن لبنان لا يزال رهينة الصراعات والمحاور، غير قادر على تقديم ضمانات سياسية وأمنية.

من هنا، يصبح الحياد هو السبيل الوحيد لاستعادة الثقة، وجذب المستثمرين، واستعادة موقع لبنان كفندق العرب وكجسر اقتصادي بين الشرق والغرب.

ثالثًا، وعلى الصعيد الاجتماعي، فمن النتائج المباشرة لغياب الاستقرار السياسي والاقتصادي في لبنان، تبرز بوضوح الأزمة الاجتماعية الأشد خطورة: ظاهرة الهجرة.

فالهجرة اليوم لا تطال فقط الفئات الباحثة عن فرص عمل، بل أصبحت تستنزف خيرة العقول والمثقفين والكفاءات الشابة، في مشهد ينذر بخسارة لبنان لأهم عناصر نهضته ومستقبله.

إن التزام لبنان بمبدأ الحياد، وما يستتبعه من استقرار سياسي ونهوض اقتصادي، من شأنه أن يُعيد تشكيل المشهد الاجتماعي برمّته، إذ يُسهم الحياد في تهدئة المخاوف والهواجس بين الطوائف والمكوّنات، ويُمهّد لظهور ثقافة مواطنة جديدة، تقوم على الولاء للدولة لا للطائفة، وعلى الانتماء للكيان اللبناني لا للولاءات الخارجيّة.

وفي المقابل، حين تستعيد الطوائف ثقتها بالدولة، وحين يطمئن اللبناني إلى أنّه مواطن لا تابع، تتراجع الحاجة إلى الهجرة، وتُفتح أبواب الأمل بقيام لبنان الجديد: وطن لجميع أبنائه، لا ساحة لصراعات الآخرين.

هذه الثقافة هي التي تُقنع الشباب اللبناني بعدم مغادرة وطنه، حين يشعر بالأمان، والاستقرار، والقدرة على تحقيق طموحاته في أرضه لا في الغربة.

أما على الصعيد الثقافي، لطالما كان لبنان مدرسة وجامعة الشرق. فمنه انطلقت المدارس والجامعات اللبنانية لتكون منارات علمٍ وفكر، لا فقط للّبنانيين، بل للطلاب العرب من حيث أتوا. غير أنّ الاضطرابات السياسية وغياب الاستقرار دفعا بعض هذه الجامعات إلى نقل فروعها إلى الخارج، إلى قبرص، الإمارات، وحتى الأردن، حيث البيئة التعليمية أكثر أمانًا واستقرارًا.

كما، شهدنا دولًا تستقطب جامعات دولية مرموقة، مستفيدة من عامل واحد وأساسي: الاستقرار.

فهل يُعقل أن يتحوّل لبنان من منصّة علمية وثقافية إلى محطة نزوح جامعي؟

إن اعتماد مبدأ الحياد الفعلي، إذا ما طُبّق بشكل جدّي وبنّاء، كفيل بإعادة الاستقرار إلى لبنان، ممّا يسمح له بأن يسترجع موقعه الطبيعي كمركز علمي وثقافي رائد في الشرق.

فالحياد لا يعيد فقط الأمن، بل يُنعش الدور الثقافي والفكري للبنان، فيستعيد مكانته كمركز للمعارض، ومنصّة للرياضة، وملتقى للإبداع الفني.

كما يُعيد إلى لبنان دور النشر الكبرى ودور الفكر العربي التي خرجت من بيروت تحت وطأة الأزمات، فتعود إلى حضنها الأصليّ.

أخيرًا، على الصعيد الأمني، يشكّل الحياد الضمانة الأساسية لحصر السلاح بيد الدولة اللبنانية وحدها، ممثّلة بالجيش والقوى الشرعية.

فالحياد يمنع أي فريق داخلي من استخدام الساحة اللبنانية لتنفيذ أجندات خارجية أو للانخراط في صراعات إقليمية لا علاقة للبنان بها، ويضع حدًّا لتحوّل لبنان منصة لحروب الآخرين على أرضه.

من خلال الحياد، تحتكر الدولة وحدها قرار السلم والحرب، فلا يبقى هذا القرار موزّعًا أو مرتهنًا، بل يعود إلى المؤسسات الشرعية فقط، ما يفتح الباب أمام قيام دولة قوية، آمنة، مستقرة، تقوم على احترام سيادتها وترفض التدخّل في شؤون غيرها، كما ترفض تدخّل الآخرين في شؤونها الداخلية.

نعم، لبنان بحاجة إلى الحياد… هذه هي الركيزة الأولى والأساسية في بلد تعددي مثل لبنان، نقطة الانطلاق لبناء وطن متماسك، مستقل القرار، محصّن من التدخلات الخارجيّة.

أما الركيزة الثانية، فهي اللامركزية الإدارية الموسّعة، التي نصّ عليها اتفاق الطائف، والتي سنفرد لها مقالًا تحليليًّا لاحقًا. وللحديث تتمة…

أستاذ جامعي محاضر ـ رئيس المجلس التربوي في حزب الكتائب اللبنانية

https://hura7.com/?p=62455

الأكثر قراءة