بقلم: روني عبد النور
زمان الخبر: وقت سابق من هذا الشهر. ومصدره: شركة التكنولوجيا الحيوية، “Shift Bioscience”، التي تستخدم نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي لدراسة إمكانية تنشيط جينات معيّنة لعملية عكس الشيخوخة. أما الفحوى، فجمْع تمويل أوّلي بقيمة 16 مليون دولار لمواصَلة تطوير منصّة محاكاة الخلايا الهادفة لتحديد الجينات القادرة على التجديد الآمن لها ومكافحة آثار الأمراض المرتبطة بالعمر. ثورنة عِلم الشيخوخة جارية على قدم وساق، هنا والآن. والخبر المذكور غيض من فيض ما هو آت.
وفقاً لتقرير لشركة التدقيق المحاسبي،”ديلويت”، جمعت أكبر 50 شركة متخصّصة في مجال إطالة العمر أكثر من مليار دولار في تمويل رأس المال الاستثماري اعتباراً من عام 2020. كيف لا وقد شهد متوسّط العمر المتوقع للإنسان ارتفاعاً حادّاً خلال القرن الماضي. فمقارنة مع المولودين سنة 1900، قد يعيش من وُلدوا بداية القرن الحالي ثلاثة عقود أكثر في المتوسّط.
بدأ مجال إطالة العمر باكتساب اعتراف أكاديمي واسع عام 1993 عندما اكتشفت سينثيا كينيون، الرائدة الأميركية في أبحاث الشيخوخة، أن تحوُّر جين واحد من جينات الدودة الأسطوانية (وقد اكتسب البشر بعض الدوائر الجينية التي تملكها الأخيرة أثناء مراحل تطوّرهم) إنما يضاعف عمرها. وسرعان ما عثر علماء آخرون على السبب. إذ وجد أميركي ثانٍ – غاري روفكون، أستاذ عِلم الوراثة في كلية الطب بجامعة “هارفرد” – أن الجين المعدّل ينظم مسار إشارات الأنسولين على نحو مماثل للمسار الموجود لدى البشر والذي قد يلعب دوراً في إبطاء نمو الخلايا والتمثيل الغذائي.
لكن قبل الغوض أكثر، نعرّج على دراسة، نُشرت الشهر الماضي في مجلة “Nature”، قادها الباحث الأميركي المخضرم في مجال الشيخوخة في جامعة “إلينوي”، س. جاي أولشانسكي. وإذ حلّلت الدراسة قاعدة بيانات مجمّعة بين عامَي 1990 و2019، استنتجت أن الابتكارات في مجال الرعاية الصحية لا تمنع تباطؤ الزيادة في متوسّط العمر المتوقع للإنسان بشكل عام. والتحليل، الذي فحص المتوسّط ذاك من ثماني دول يتمتّع سكانها بأطول معدّلات العمر (كوريا الجنوبية واليابان وأستراليا وفرنسا وإيطاليا وسويسرا والسويد وإسبانيا، إلى جانب هونغ كونغ والولايات المتحدة)، لفت إلى أن 15% فقط من الإناث و5% من الذكور المولودين سنة 2019 سيبلغون عتبة المئة عام.
أولشانسكي نفسه سبق وأن أبدى شكوكاً حيال إطالة العمر جذرياً منذ عام 1990. حينها توقّع أن تتباطأ مكاسب متوسّط العمر المتوقع للإنسان بغضّ النظر عن التدخّلات الطبية، مفترضاً أن البشرية تقترب من سقف 85 عاماً لمتوسّط العمر المتوقع. البعض يومها زعم أن الدراسة الأوّلية لم تأخذ بالاعتبار إمكانات التقدّم المستقبلي في الطب والبيولوجيا. بيد أن النتائج الجديدة تدعم اكتشاف أولشانسكي الأصلي، ما يرفع منسوب التحدّي بالنسبة للطب وأهله.
بالحديث عن التحدّي أعلاه، نورد مَثلين اثنين تصدّياً له. ونذهب أوّلاً إلى جامعة “واشنطن” ودراسة نشرتها “National Library of Medicine”. فسنة 2020، جرّب الدكتور الأميركي في طب الأسنان، جوناثان آن، إعطاء مجموعة فئران طعاماً ممزوجاً بعقار “راباميسين” (المستخدَم تقليدياً للمساعدة على تقبُّل الجسم للأعضاء المزروعة) يومياً لمعرفة ما إذا كان ذلك سيُحسّن من صحتها الفموية. وكان كذلك. إذ لم تعانِ الفئران المعالَجة لمدة ثمانية أسابيع بالعقار من أعراض متأخّرة لأمراض اللثة. لا بل هي شهدت نموّاً جديداً لعظام الفك الداعمة للأسنان.
ما البارز هنا؟ اختبار “راباميسين” على البشر البالغين. فلو جاءت النتائج مشابهة، قد يصبح بمتناولنا دواء مساعد على تجنُّب زيارة عيادات الأسنان غير المحبّبة. لكن ثمة ما هو أبرز بعد. ففي تجارب منفصلة طيلة العقد الماضي، وجد آن أن العقار المذكور يطيل عمر الديدان الخيطية وذباب الفاكهة والفئران. لا بل هو ساعد الفئران على تأخير تدهوُر المناعة (أو حتى عكسها) وضمور العضلات والتراجع المعرفي ونموّ الخلايا السرطانية.
من ناحيتهم، قام باحثون في مختبر مجلس البحوث الطبية للعلوم الطبية البريطاني، بإعطاء جسم مضاد لبروتين “IL-11” لفئران عمرها 75 أسبوعاً – أي ما يعادل حوالي 55 عاماً لدى البشر (وهو العمر الذي يزداد عند عتبته إنتاج “IL-11” لدينا). وكانت النتائج، التي نُشرت في مجلة “Nature” الصيف الماضي، مهمة للغاية بآثار جانبية ضئيلة: فقد أظهرت الفئران المستهدَفة بالعقار إطالة بمتوسّط العمر بنسبة 22.5% لدى الذكور و25% لدى الإناث. وقلّل العلاج بشكل كبير من الوفيات المرتبطة بالسرطان لديها ومن الأمراض المتعلّقة بالتليّف والالتهاب المزمن وضعف التمثيل الغذائي، وهي جميعها من سمات الشيخوخة.
مثلان معبّران تماماً. لكن فارق معدّل العمر بين الإنسان وحيوانات التجارب لغرض عقد المقارنات يجعل الاستقراء غير حاسم بدلالاته. فما دور الذكاء الاصطناعي، الذي دخل معترك اكتشاف وتصميم الأدوية والتدخّلات المتّصلة بإطالة العمر، في هذا السياق؟ يقول عالِم المستقبليات الأميركي، راي كورزويل، في كتابه الصادر حديثاً، “التفرّد أقرب: أن يندمج البشر بشكل كامل مع الذكاء الاصطناعي”، إن المحاكاة البيولوجية ستكون بنهاية العقد الحالي متقدّمة بما يكفي لتوليد بيانات السلامة والفعالية الرئيسة في ساعات بدلاً من السنوات التي تتطلبها التجارب السريرية عادةً. وهو انتقال ستحكمه قوّتان متعاكستان. أوّلاً، عدم تجاهُل المحاكاة للحقائق الطبية والنجاح في تحديد مدى سلامة استخدام دواء ما؛ وثانياً، قدرة المحاكاة على شمول أعداد أكبر من المرضى ودراسة مجموعة واسعة من العوامل الديموغرافية والأمراض المصاحِبة.
ويضيف أن ثلاثينيات القرن الحالي ستجلب ثورة صحية أخرى، يطلق عليها توصيف الجسر الثالث لإطالة العمر الجذري – أو الروبوتات النانوية الطبية. هذا التدخل سيعمل على توسيع هائل للجهاز المناعي الذي يتضمن الخلايا التائية القادرة على تدمير الكائنات الحية الدقيقة المعادية بذكاء. علماً بأن الجسر الأول شكّل معرفتنا الدوائية الحالية التي بُنيت حول الحياة الصحية والطب الوقائي والتكنولوجيا الحيوية؛ والجسر الثاني، الذي نحن بطوره، يتمثّل بدمج التكنولوجيا الحيوية مع الذكاء الاصطناعي اعتماداً على الهندسة الوراثية والأنسجة والطب التجديدي المتقدّم.
أما الجسر الرابع لإطالة أمد الحياة جذرياً، برأي كورزويل، فسيتمثّل بالقدرة على “التخزين الاحتياطي” لمعلومات هويّتنا الطبية، بما يشبه تعاملنا الروتيني مع المعلومات الرقمية التي بحوزتنا. ومع تعزيز القشرة المخية البيولوجية لدينا – ومليارات خلاياها العصبية – بنماذج واقعية للقشرة المخية الحديثة في السحابة الرقمية، سيصبح تفكيرنا مزيجاً هجيناً من التفكير البيولوجي المعتاد وامتداده الرقمي. وسيتوسّع الجزء الرقمي بشكل كبير ليهيمن بالمحصلة. لا بل سيتمتّع بقوّة كافية لفهم الجزء البيولوجي ونمذجته ومحاكاته (وإصلاح أعطابه) كاملاً. وسيستحيل السيناريو ذاك واقعاً مع اقترابنا من نقطة “التفرّد” في منتصف الأربعينيات.
بدوره، يعتقد عالِم المستقبليات الفنزويلي، خوسيه لويس كورديرو، أنه بحلول عام 2045، سنتسلّح بفضل الذكاء الاصطناعي (وتعمُّق قدرتنا على تحليل الجينوم البشري) بالقدرة على عكس الشيخوخة باستخدام علاجات التجديد على الخلايا والأعضاء. وبحسب كورديرو، مؤلّف كتاب “احتضار الموت”، هناك بالفعل خلايا “خالدة” في جسم الإنسان ومخلوقات على الأرض لا تتقدّم في العمر أبداً. فإذا ما استطعنا كشْف أسرارها، يمكننا جميعاً أن نعيش قدر ما نشاء.
والحال أنه يتمّ استبدال 30 تريليون خلية في جسم الإنسان بمعدّلات مختلفة – منها ما يدوم طوال العمر، ومنها ما لا يقاوِم أكثر من بضعة أيام، وما بينهما. لكن لدى الخلايا ساعة مدمجة تسمّى “حدّ هايفليك”، نسبة إلى عالِم الأحياء الأميركي، ليونارد هايفليك، الذي اكتشف عام 1961 أن الخلايا البشرية تنقسم بين 40 و60 مرة قبل دخول مرحلة الشيخوخة. ويتمّ تنظيم العملية بواسطة التيلوميرات الموجودة في نهاية كل كروموسوم، والتي تقصر مع كل انقسام إلى أن تعجز الخلية – باستثناء الجذعي والسرطاني منها – عن مزيد من الانقسام.
يقول كورديرو: “نحن نعلم أن الخلود موجود بالفعل في الطبيعة. لذا، نحتاج فقط إلى اكتشاف كيف تفعل الطبيعة ذلك وتكراره، إنما بشكل أفضل ولصالح الجسم بالكامل”. هنا، كما يخلص كورزويل، يتجلّى دور القشرة المخية الحديثة الافتراضية الأعمق لناحية تسليحنا بالقدرة على بلورة أفكار أكثر تعقيداً وتجريداً على صعيد التصوُّر والاستنتاج. وهذا، بالمحصّلة، يتوافق مع اعتقاد أنصار نظرية التطوّر البشري بأننا قد نصبح “خالدين رقمياً” في غضون عقدين من الزمن في تجاوُز كامل لإنسانيتنا ومحدوديّاتها الفيزيولوجية.
هي معالم ثورة تتبلور أمام أعيننا. لكنها تبقى منقوصة ما لم نعتنق أكثر المقاربات التنظيمية والممارسات الإلكترونية أماناً بما يخصّ الخدمات الطبية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي. فحماية سلامة المسنّ أو المريض وخصوصيته لا تقلّ شأناً عن إطالة عمره أو تحسين جودة ما بقي منه. لذا، أن يكون زمن خلودنا البيولوجي قاب قوسين أو أدنى، شيء. أما أن يفرد الزمن ذاك جانحه الأخلاقي ليحلّق بنا بعيداً، فشيء آخر تماماً. وهنا يكمن امتحان الإنسانية الرئيس.
https://www.nature.com/articles/s43587-024-00702-3
https://elifesciences.org/articles/54318
https://www.nature.com/articles/s41586-024-07701-9