الحرة بيروت ـ بقلم: روني عبد النور
الأخطار البيئية المتربّصة بصحة الإنسان كثيرة وتتزايد. لكن تلوث الهواء، في هذا السياق، يُعدّ عامل الخطر الرئيس. فتأثيرات الهواء رديء الجودة على الجهاز القلبي الوعائي والجهاز التنفسي باتت من مسلّمات المجتمع العلمي. وأثره على صحتنا الدماغية خطر داهم هو الآخر. أما تمدُّد تقنيات الذكاء الاصطناعي، فيُدخل متغيّراً مزدوج المفاعيل على المأزق العالمي ذاك.
نعرف أن تلوث الهواء مسؤول سنوياً عن حوالى 7 ملايين حالة وفاة عالمياً. إذ يعيش 99% من البشر في مناطق يتجاوز فيها التلوث المستويات الموصى بها من قِبَل منظمة الصحة العالمية. علماً بأن الهواء الملوث مزيج من الغازات والمواد الصلبة والجسيمات السائلة، وقوامه مجموعة مكونات خطرة، كالأوزون وثاني أكسيد الكبريت وأول أكسيد الكربون. ويُعتبر الجسيّم الدقيق، PM2.5، أحد أكثر الملوثات الجوية تأثيراً على الصحة.
فلنركّز على الدماغ. لقد أدرك العلماء أن تلوث الهواء يتفاعل مباشرة مع خلايا الأخير، خاصة في المناطق التي تتحكم بالعواطف، متسبباً بحالات القلق والاكتئاب. إلّا أن الأبحاث تُظهر أن للتلوث – من أبخرة عوادم المركبات والمستويات العالية من ثاني أكسيد النيتروجين ومصدرها الأساس الانبعاثات الصناعية – تأثيرات طويلة المدى على الدماغ أيضاً، لا سيّما الحالات المرتبطة بالخرف.
تبيّن مؤخراً أن قدرة الناس على تفسير المشاعر أو التركيز على أداء مهمة ما تتضاءل نتيجة التعرض قصير الأمد لتلوث الهواء بالجسيمات الدقيقة. ففي دراسة لجامعتَي برمنغهام ومانشستر، نُشرت في مجلة Nature Communications قبل أيام، عرّض الباحثون مجموعة مشاركين لمستويات عالية من الهواء الملوث والنظيف. واختبروا قدرات هؤلاء المعرفية قبل وبعد أربع ساعات من التعرض.
صحيح أن بعض وظائف المخ بدت أكثر تحصيناً في مواجهة التلوث على المدى القصير. لكن الفريق كشف أن الانتباه الانتقائي والتعرف على المشاعر تأثّرا سلباً نتيجة التلوث – بغض النظر عن تنشقّه من الأنف أو الفم. إذ اقترح الخبراء (ودراستهم رائدة لناحية التحكم تجريبياً بطرق استنشاق الهواء الملوث بالجسيمات) أن تكون الالتهابات الناجمة عن التلوث مسؤولة عن تلك الآثار.
نعود إلى القلق والاكتئاب. ففي مراجعة منهجية نُشرت أواخر سنة 2022 في مجلة NeuroToxicology، تفحّص فريق من جامعة “واين ستايت” أكثر من 100 مقال بحثي من دراسات طالت الحيوانات والبشر. وقد ركّزت على تأثيرات تلوث الهواء الخارجي على الصحة العقلية ومناطق الدماغ الناظمة للعواطف (وتحديداً الحُصين واللوزة والقشرة الجبهية).
بحسب 73% من الدراسات، كانت الأعراض أكثر بروزاً لدى تعرُّض البشر والحيوانات لمستويات تلوث أعلى من المتوسط. وتبيّن أن 95% من الدراسات التي نظرت في تأثيرات الأمر على الدماغ وقعت على تغييرات جسدية ووظيفية كبيرة داخل مناطق الدماغ المذكورة لدى المعرضين لمستويات متزايدة من التلوث. كما وجد معظمها أن التعرض للمستويات تلك إنما يرتبط بزيادة الالتهابات والتغيرات في تنظيم النواقل العصبية.
ووفق الدراسات أيضاً، فإن الجسيمات الصغيرة التي تبلغ الدماغ عن طريق الأنف، عبر العصب الشمي، تحمل على أسطحها ملوثات على شاكلة مركبات كيميائية، كالديوكسينات، والمعادن، كالحديد والرصاص. وباستطاعة الجسيمات الحاملة للمعادن أن تضرّ بالخلايا العصبية والدبقية المناعية. فقد أظهرت دراسة، وردت سنة 2020 في مجلة PNAS، أن الجسيمات الصغيرة قد تنزلق عبر الغشاء البلازمي للحويصلات الهوائية لتلتقطها الشعيرات الدموية وتنتشر في الجسم عبر الدم. وحتى الجسيمات المبتلعة قد تكون ذات تأثيرات عصبية سلبية غير مباشرة، عبر الأمعاء.
نرجع إلى سنة 2011. يومها، أجرى علماء في كلية لندن للاقتصاد دراسة بحثاً عما إذا كان تلوث الهواء ذات تأثير على الأداء الإدراكي. فقاموا بمراقبة مجموعة طلاب أدّوا امتحانات في أيام مختلفة، وبقياس مقدار التلوث في تلك الأيام. فوجدوا أن التباين في النتائج المتوسطة كان مختلفاً بشدّة. إذ ارتبطت الأيام الأكثر تلوثاً بأسوأ درجات اختبار والعكس صحيح. وبعد سنوات، كان الذين قدّموا أسوأ أداء في الأيام الأشدّ تلوثاً أكثر عرضة للالتحاق بجامعات ذات تصنيف أدنى وحقّقوا مكاسب مالية أقل أيضاً.
وفي بحث آخر أجراه الفريق عام 2018، حلّلوا بيانات الجريمة على مدى عامين من أكثر من 600 دائرة انتخابية في لندن. فلاحظوا ارتفاعاً في معدّل الجرائم البسيطة التي وقعت في الأيام الأكثر تلوثاً في المناطق الغنية والفقيرة على السواء. وفي العام نفسه، أجرى خبراء من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بحثاً تناول بيانات شملت الولايات المتحدة بأكملها تقريباً طيلة تسع سنوات. فظهر أن تلوث الهواء تنبأ بست فئات رئيسية من الجرائم، بما في ذلك القتل غير العمد والاغتصاب والسطو.
بدلاً من تعريض مشاركين من الولايات المتحدة والهند للتلوث جسدياً، عُرضت عليهم صور لمدينة ملوثة للغاية. ثم طُلب منهم أن يتخيلوا أنفسهم يعيشون هناك. فرصد الفريق ارتفاع منسوب قلق المشاركين حيث باتوا أكثر تركيزاً على أنفسهم – وهما استجابتان محفّزتان للسلوكيات العدوانية. وفي تجارب أخرى، أظهر البحث أن المعرّضين لظروف “ملوثة” كانوا أكثر عرضة للغش في العديد من المهام والمبالغة في تقدير أدائهم طمعاً بالمكافآت.
لكن أين يقف الذكاء الاصطناعي من كل ذلك؟ الشق السلبي من الإجابة، أوّلاً. فطفرة الـ”AI” تحفّز مستويات متزايدة من تلوث الهواء المنبعث من محطات الطاقة ومولدات الديزل الاحتياطية التي تغذّي الحواسيب الذكية. ويُتوقّع أن يؤدي ذلك إلى قرابة 1300 حالة وفاة مبكرة سنوياً بحلول عام 2030 في الولايات المتحدة وحدها. بينما تقترب تكاليف الصحة العامة ذات الصلة (كالسرطان والربو والتغيّب عن العمل وأيام الدراسة) من 20 مليار دولار سنوياً.
هذه نتائج دراسة حديثة لعلماء من جامعتَي “كاليفورنيا ريفرسايد” و”كالتك”، نُشرت في موقع arXiv نهاية العام الماضي. فقد توصّل المؤلفون إلى أن تلوث الهواء الناجم عن الذكاء الاصطناعي (للأسباب آنفة الذكر) يؤثر بشكل غير متناسب على بعض المجتمعات ذات الدخل المنخفض. لكن ثمة شقّاً أكثر إيجابية للإجابة. فللمفارقة، تقدم التطورات المتسارعة في عالَم الـ”AI”، وخاصة التعلم الآلي والعميق، إمكانية إنشاء نماذج أكثر دقة لرصد ومراقبة نسب التلوث وتوقعه.
أجريت هذا الشهر مراجعة شاملة في مجلة Environmental Modelling & Software، عبر تحليل 65 مقالة عالية الجودة للكشف عن الاتجاهات الحالية والتحديات المتّصلة ونجاعة تطبيقات الذكاء الاصطناعي المستقبلية في هذا المجال. وبالفعل، تكشّفت زيادة كبيرة في الأوراق البحثية التي تستخدم نهجَي التعلم الآلي والعميق منذ عام 2021. وبرزت خوارزمية Random Forest كالأكثر شيوعاً بدقة نتائج تصل إلى 98.2%.
ماذا يعني ذلك؟ من شأن تقنيات التعلم العميق التقاط العلاقات المكانية – الزمنية المعقدة في بيانات جودة الهواء. وهذا واعد للغاية. لكن الأبحاث المستقبلية يجب أن تنكب على تحسين قابلية تفسير النماذج وتقدير مستوى عدم اليقين. ذلك مراعاة لأنماط التلوث الديناميكية، خاصة في ظل تسارُع التغيُّرات المناخية.
هو مأزق بيئي عالمي بلا شك. إنما، من بين عوامل وعلاجات أخرى، تبقى العين على الذكاء الاصطناعي لدوره المزدوج في هذا الإطار. فهل يتحول من أحد معمّقات المأزق إلى منقذ لملايين البشر من تبعاته؟
المراجع:
https://www.nature.com/articles/s41467-025-56508-3
https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0161813X22001668?via%3Dihub
https://www.pnas.org/doi/10.1073/pnas.2008940117
https://wol.iza.org/articles/air-pollution-educational-achievements-and-human-capital-formation/long
https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/29412050/