الحرة بيروت ـ بقلم روني عبد النور
إنه عصر استكشاف الكون ونظامنا الشمسي وتعقّب آثار الحياة في ثناياهما. أو هكذا على الأقل يفترض العلماء. فالكمّ الهائل من الأدلة العلمية يزداد وتيرةً مدعّماً بتطور تكنولوجي مطّرد. الحياة بين ظهرانينا تولّدت أغلب الظن بمجرّد أن بردت الأرض بُعيد ولادتها النارية وجراء اشتمالها على الماء السائل، أهم عناصر الحياة. لكن العوامل تتشابك. والسؤال يتجدّد: هل يمكن أن نكون الوافدين الوحيدين إلى الكون – أو حتى أولهم؟
وفقاً لدراسة منشورة قبل أيام في مجلة “The Astrophysical Journal Letters”، أعلن فريق من جامعة كامبريدج اكتشاف “بصمات حيوية” واعدة عن وجود حياة محتملة على كوكب خارج النظام الشمسي. فباستخدام تلسكوب “جيمس ويب”، ظهرت علامات على وجود مادتين كيميائيتين تُنتجهما الكائنات الحية (ثنائي ميثيل الكبريتيد وثنائي كبريتيد ثنائي الميثيل) في الغلاف الجوي لكوكب “K2-18b”. والأخير يدور حول نجمه في منطقة “صالحة للسكن” – أي، ضمن المسافة الفاصلة بينه وبين نجمه التي تسمح له باحتواء الماء السائل.
من حيث المبدأ، ترصد التلسكوبات الكواكب الخارجية البعيدة (وعددها يفوق 5000) لدى مرورها أمام نجمها بتحليل كيفية حجب الجزيئات للضوء المتدفق عبر غلافها الجوي. وفي عام 2023، اكتشف “جيمس ويب”، في سابقة، غازَي الميثان وثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي للكوكب المذكور – وهو يبعد 124 سنة ضوئية عن الأرض، تزيد كتلته عن ثمانية أضعاف كتلتها ويفوقها حجماً بواقع ضعفين ونصف.
كما رُصدت إشارات ضعيفة لمادة ثنائي ميثيل الكبريتيد، ما دفع العلماء إلى إعادة توجيه التلسكوب نحو الكوكب قبل عام. هذه المرة باستخدام جهاز الأشعة تحت الحمراء المتوسطة للكشف عن أطوال موجية مختلفة للضوء. فوجدوا دلائل أقوى بكثير على وجود المواد الكيميائية المذكورة، بتركيز أعلى بآلاف المرات نسبة لمستوياتها الأرضية – ما يلفت بقوة إلى أصل بيولوجي، بحسب الباحثين.
بالنسبة لبعض الخبراء، قد تكون المواد تلك تشكّلت بوسائل مجهولة لا علاقة لها بالحياة، كما نعرّفها. لكن الاكتشاف، الذي يحتاج لمزيد من التحقّق، ليس بقليل الشأن. ونبقى مع الماء. ففي دراسة الشهر الماضي لجامعة بورتسموث، نُشرت في مجلة “Nature Astronomy”، جرى البحث في كمية الماء التي تكوّنت ربما بواسطة بعض النجوم الأولى فدعمت فرص الحياة في وقت مبكر جداً.
سبق واكتُشف أقدم ماء معروف كونياً بواسطة مصفوفة أتاكاما الكبيرة المليمترية/دون المليمترية (ALMA) في التشيلي. ورُصدت علامات طيفية ذات صلة في مجرة تبعد عنا حوالى 12.88 مليار سنة ضوئية. وحيث كان الكون بدايةً أشبه بصحراء قاحلة، تبدّل الأمر بعد نحو 100 مليون سنة من الانفجار العظيم. حينذاك، انهارت كتل كثيفة من الهيدروجين والهيليوم البدائيين المتبقيين من الانفجار العظيم تحت تأثير الجاذبية الذاتية، ما أشعل تفاعلات نووية حرارية متسلسلة في أنوية النجوم تسبّبت بإضاءة الكون.
من خلال موتها المتفجر، غذّت النجوم الأولى محيطها بعناصر مثل الأكسجين والكربون والسيليكون. أما الأجيال اللاحقة منها (ومن الكواكب)، فتكوّنت من الرماد النجمي الخصب، حيث يُفترض أن الأكسجين الناتج عن المستعرات العظمى اتّحد مع الهيدروجين البدائي الوفير لتكوين الماء. لكن المشكلة كمنت في إنتاج النجوم الأولى لكميات كبيرة من الأكسجين. فراح الأخير يتفشّى في مساحات فضائية واسعة عبر المستعرات العظمى، ما قد أعاق تكوين الماء.
بنى الفريق نماذج عددية لانفجارات المستعر الأعظم لنجمين من الجيل الأول – أحدهما أثقل من الشمس بواقع 13 مرة، والآخر بواقع 200. واختبرت مجموعة محاكاة ثانية ما إذا كانت كتل الغاز الغنية بالماء من النماذج الأولى قادرة على الانهيار لتتحول إلى نجم منخفض الكتلة قادر على نشوء عوالم صخرية رطبة. والحال أنه، في محاكاة لاحقة، وُلد نجم صغير من الغاز الكثيف، توازي كتلته نحو ثلاثة أرباع كتلة الشمس، مصحوباً بكواكب مصغرة.
رغم احتمالية تشكّله في وقت كوني مبكر جداً، من المحتمل ألا يكون نجم بهذا الحجم قد استهلك معظم وقوده النووي الحراري بعد. أي، ربما ثمة كواكب بدائية محتملة سبق واستضافت محيطات حول النجم ولا تزال تنتظر من يعثر عليها. لكن على أهمية عنصر الماء في هذا السياق، تحتاج الكائنات الحية باستمرار إلى الطاقة للحفاظ على تنظيمها الجزيئي وعلى هياكلها ووظائفها المنظمة، تفادياً للفوضى. أما أرضياً، فالحياة مبنية على تفاعل الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (DNA) والحمض النووي الريبوزي (RNA) والبروتينات. ومع ذلك، قد يأوي الكون أشكالاً حية مبنية على مبادئ كيميائية وعناصر حيوية مختلفة. وتحديداً، طُرِح السيليكون، لتشابهه الكيميائي مع الكربون، كبديل محتمل.
يُعدّ السيليكون مكوّناً ثانوياً مهمّاً للعديد من النباتات والحيوانات الأرضية، حيث يؤدي أدواراً هيكلية ووظيفية. لكن ما زلنا نجهل إن كانت أشكال الحياة القائمة عليه موجودة أصلاً. ويعود ذلك لفرضيات متضاربة حول كيفية نشوء الحياة هنا: إحداها، وصول باكورة المداميك (الجزيئات العضوية) عبر النيازك؛ والأخرى، اجتماع المداميك تلك تلقائياً عبر الكيمياء الجيولوجية في البيئة المبكرة لكوكبنا.
هنا، تُقدم معادلة عالِم الفلك الأميركي، فرانك دريك، إطاراً لتقدير عدد الحضارات التي يمكن اكتشافها داخل مجرتنا. وتتضمن المعادلة عوامل مثل معدل تكوّن النجوم، ونسبة النجوم التي تدور حولها الكواكب، والكواكب التي قد تستضيف حياة ذكية. لكن ثمة متغيراً مفقوداً من المعادلة، بحسب فريق من جامعة دورهام البريطانية: تأثير الطاقة المظلمة – التي تشكّل نحو 71.4% من محتوى المادة والطاقة في الكون – على معدل تكوّن النجوم وتفسير وجودنا في الكون من أصله.
احتسب الباحثون – في دراسة نُشرت نهاية العام الماضي في مجلة “The Monthly Notices of the Royal Astronomical Society” – معدل تحوّل المادة هذه بإزاء كثافات مختلفة من الطاقة المظلمة في نموذج الكون لتحديد المعدل الأكثر كفاءة لتكوين النجوم. فوجدوا أنه يحدث لدى تحوُّل 27% من المادة إلى نجوم. فما المثير في الأمر؟ تمتُّع كوننا بمعدل تحوُّل يبلغ 23%. وهو ما قد يزيد من احتمالية ظهور حياة ذكية في أماكن أخرى من الكون.
نرجع إلى حيث انطلقنا: الكواكب الخارجية. إذ تُشير العيّنات المكتشفة حتى الآن إلى 300 مليون تجربة بيولوجية محتملة في مجرتنا. وقد جادل باحثون مؤخراً بأن الأنظمة المعقدة من المواد الكيميائية أو المعادن، عندما تكون في بيئات تفضيلية للبقاء، تتطور لتخزين كميات أكبر من المعلومات. ومع الوقت، يزداد النظام تنوعاً وتعقيداً، مكتسباً الوظائف اللازمة للبقاء كنوع من أنواع الانتقاء الطبيعي.
من زاوية نظرية المعلومات، يزيد الانتقاء الطبيعي من تعقيد الجينوم كلما خزّن معلومات أكثر عن بيئته، بحسب عالِم الفلك البريطاني، كريس إمبي. وقد يكون التعقيد مفيداً في قياس الحد الفاصل بين الحياة واللاحياة. أما إحدى الاستراتيجيات المعتمَدة هنا، فهي قياس البصمات المعدنية على الأسطح الصخرية للكواكب الخارجية، كون التنوع المعدني يتتبّع التطور البيولوجي الأرضي.
ليس بالطبع ثمة إجابات حاسمة (بعد). لكن، بجميع الأحوال، وبالنظر إلى العدد الهائل من النجوم والكواكب، من المستبعد ألا تكون الحياة قد نشأت في مكان آخر أو أكثر أيضاً، وفق أهل الاختصاص. فمع وجود ما يُقدَّر بـ200 مليار تريليون نجم في الكون المرئي، لن يكون وجود حضارات تكنولوجية أخرى – قريبة أو بعيدة – مفاجئاً البتة.
تُعرّف “ناسا” الحياة بأنها “تفاعُل كيميائي قائم بذاته قادر على التطور الدارويني”. وبصفتنا، كبشر، داروينيين – تكيّفيين حتى النخاع، علينا بشدّ الأحزمة. فقد لا يطول الزمن قبل أن نكتشف (بالدليل القاطع) بأننا لسنا الوافدين الوحيدين إلى الكون – ولا حتى أولهم!
المراجع:
https://iopscience.iop.org/article/10.3847/2041-8213/adc1c8
https://www.nature.com/articles/s41550-025-02479-w
https://academic.oup.com/mnras/article/535/2/1449/7896079?login=false
رابط المقال: https://hura7.com/?p=50711
رابط العدد: https://hura7.com/?p=50468