خلال النسخة الباريسية الأخيرة من الألعاب الأولمبية الصيفية، سُلّط ضوء جدلي على الملاكمتين الجزائرية، إيمان خليف، والتايوانية، لين يو تينغ. والإشكالية: امتلاك الرياضيّتين لكروموسومات ذكرية. قضية الملاكمتين سبق وأثيرت بعد أن استبعدتهما الرابطة الدولية للملاكمة من بطولة العالم في اللعبة لعام 2023 لفشلهما في “اختبارات الأهلية” – أو عدم حيازتهنّ لـ”شهادات الأنوثة”، بعبارات أخرى. صحيح أن الحالة موضوع البحث يعزوها الخبراء لأسباب طبية وتتيح حيّزاً واسعاً من النقاش متعدّد الأبعاد. لكن ماذا لو كان الكروموسوم الذكري، مصدر الإشكالية إيّاها، يترنّح أصلاً على حافة “الفناء” – والجنس البشري برمّته أمام ثورات تطوّرية جدّية؟
في كتابه الصادر سنة 2003 بعنوان “لعنة آدم: مستقبل بلا رجال”، تنبّأ أستاذ عِلم الوراثة البريطاني برايان سايكس بزوال الكروموسوم الذكري (Y) في غضون مئة ألف عام. بدورها، اقترحت أبحاث أن الكروموسوم المذكور يتحلّل وراثياً بوتيرة عالية. لا بل ذهبت بعض النتائج إلى حتمية انقراضه في غضون بضعة ملايين من السنين. لكن، بالمقابل، شكّكت دراسات أخرى بأن تحتّم المتغيّرات الجينية، على أهميّتها، النهاية الانقراضية للرجل.
فلنتعمّق أكثر. تحتوي معظم خلايا البشر على 23 مجموعة من الكروموسومات، بما فيها زوج واحد من الكروموسومات الجنسية. لدى النساء، يتكوّن الزوج من اثنين من الكروموسومات (X)، بينما ثمة لدى الرجال كروموسوم (X) وكروموسوم (Y)، توالياً. هذه الكروموسومات تطوّرت من زوج من الصبغيات الجسدية منذ حوالي 180 مليون سنة. لكن ثمة مفارقة: على الرغم من أصلهما التطوّري المشترك وتطابقها المبكر حجماً ومحتوى، أدّى التحلّل الجيني الشامل إلى فقدان الكروموسوم (Y) لـ97٪ من جيناته الأصلية (ما مجموعه1393 من أصل 1438 جيناً)، بينما ظل محتوى جينات الكروموسوم (X) محفوظاً بما يفوق 900 جيناً، بحسب دراسة أميركية عرضتها مجلة “Nature” سنة 2020.
بالطبع، تلعب قوة الانتقاء الطبيعي دوراً في كبح جماح التحلّل الجيني للكروموسوم (Y). لكن ما سبب التدهور أساساً؟ إنها ببساطة القدرة المحدودة للغاية على تبادُل المواد الوراثية بينه وبين الكروموسوم (X) إبّان التكاثر. ففي حين يتّحد الكروموسوم (X) لدى الإناث مع شبيه له، يفتقد الكروموسوم (Y) لهذه الخاصية. إنه إذاً عيب أساسي يمنحنا نسخة متناسَلة واحدة من الكروموسوم الأخير، بعكس الكروموسومات الأخرى التي نمتلك نسختين منها في كل من خلايانا.
والحال أن تقهقُر عملية إعادة التركيب هذه – التي تحدث جيلياً وتساعد في القضاء على الطفرات الجينية الضارة – يجعل الكروموسوم (Y) فريسة دائمة للقوى التآكلية (أو التنكّسية). وهذا يؤدّي، وفق العلماء، إلى مشاكل أكيدة في الخصوبة وإنتاج محتمل لأنواع كروموسومية جديدة. لكن مع ذلك، أظهرت أبحاث حديثة (من بينها دراسة لجامعة “آرهوس” الدانمركية نُشرت سنة 2017 في مجلة “PLoS Genetics”) تطوير الكروموسوم المتآكل – ذات الحمض النووي غير المشفّر ومحدود النشاط – لبعض الآليات الكابحة البديلة.
قامت الدراسة بسَلسَلة أجزاء من الكروموسوم (Y) مستعينة بـ62 رجلاً. فوجدت أنه عرضة لإعادة ترتيب هيكلي واسع النطاق يسمح بـ”تضخيم الجينات” (أي اكتساب نسخ متعدّدة من المعزِّز منها لوظيفة الحيوانات المنوية اللاجمة لفقدان الجينات). وقبلها، تلقّى أهل الهندسة الوراثية سنة 2016 خبراً سارّاً عبر بحث لجامعة “لاتروب” الأسترالية ظهر في مجلة “National Library of Medicine”: فقدان الفئران الشوكية اليابانية وفئران الخلد الأوروبية للكروموسوم (Y) بالكامل، ترافق مع انتقال جين “المفتاح الرئيسي”، أو “SRY”، لديها إلى كروموسوم مختلف، ما أدام إنتاجها للذكور دونما حاجة إلى الكروموسوم (Y) من أصله.
بيد أن المعضلة تكمن في أن الكروموسوم الجديد المحدِّد للجنس من شأنه أن يدخل هو الآخر في عملية تدهوُر جديدة لافتقاره لقدرة إعادة التركيب. إنما بغضّ النظر، أعاد بحث نُشر سنة 2022 في مجلة “PNAS” لفريق من جامعة “هوكايدو” اليابانية تأكيد أن اختفاء الكروموسوم (Y)، بسبب دخوله في دوامة تعيق قدرته على إصلاح نفسه تزامناً مع العديد من الطفرات وعمليات الحذف الجيني، قد لا يعني نهاية الذكور. فما هو دور جين “SRY” المتغيّر، الذي اكتسبه الكروموسوم (Y) وجرى التعرّف عليه العام 1990، في هذا السياق؟
جين “المفتاح الرئيسي” هذا يحدِّد ما إذا كان الجنين سيتطوّر كذكر أو كأنثى، كونه يعمل على إطلاق سلسلة أحداث بعد مرور قرابة 12 أسبوعاً على الحمل. فحيث تبدأ جميع الخلايا بالتطوّر كإناث، يُشغِّل “SRY” جينات أخرى، ضمن مسار وراثي، تسهم في نموّ الجنين كذكر، بما فيها جين “SOX9″ المحفّز لنموّ الخصيتين (المنتجتين لهرمونات الذكورة كالتستوستيرون). وعثر الباحثون لدى ذكور فئران الاختبار على منطقة مكرّرة على الكروموسوم الثالث، بجوار جين”SOX9” نفسه. فالتكرار (الذي حدث قبل حوالى مليونَي سنة) يعزِّز نشاط الجين المذكور ليحلّ محلّ “SRY” بشكل فعّال، ما ساهم بتطوير آلية إنتاج ذكور باستخدام كروموسوم مختلف تماماً.
فهل تستحدث جيناتنا نحن أيضاً طريقة ما للتغلب على هذه العقبة التطوّرية؟ محتمل جداً. بحسب الفريق: “قد نطوّر جيناً جنسياً جديداً يحدِّد كروموسومات جنسية جديدة. لكن قد لا يكون “SOX9″ نفسه بالضرورة، إذ إن ثمة زهاء 60 جيناً آخر في المسار المميِّز للخصيتين في الأجنة الذكورية”. جيّد. إلّا أن التطرّق نظرياً إلى احتمال انقراض الجنس البشري الذكري لا يستقيم بدون المرور أيضاً على ما يُعرف بآلية التوالد العذري المرصودة في بعض أنواع السحالي والثعابين، والعناكب، وأسماك القرش، والطيور، واللافقاريات وسواها. ويحدث ذلك بواسطة إنتاج الإناث لأمشاج تخصّب نفسها تلقائياً إما باندماج نواة بيضتين أو بمضاعفة نواة بيضة لجميع كروموسوماتها.
صحيح أن التوالد العذري غير ممكن الحدوث، حتى الساعة، لدى البشر أو الثدييات الأخرى لامتلاكنا ما لا يقل عن 30 جيناً “مطبوعاً” حاسماً لا تعمل إلا من خلال الحيوانات المنوية الذكرية. وصحيح أيضاً أن الكروموسوم (Y) قد يواصل صموده البطولي بطريقة أو بأخرى. لكن لنتخيّل للحظة ولادة جين جديد محدِّد للجنس لدينا، ونسأل: ماذا لو تطوّر، كمحصّلة لصراع جيناتنا الجنسية، أكثر من نظام جيني على مستوى العالم إيذاناً ببزوغ فجر أنواع بشرية جديدة لكلّ منها كروموسوماتها الجنسية المميّزة؟
سؤال معقّد. لكننا قد نكون أمام واقع أكثر تعقيداً بما لا يُقاس. فأغلب الظن أن الخطوة التالية في مسار تطوّرنا البشري ستتمثّل بالدمج السايبورغي للتكنولوجيا والجسد، لا بمجرّد سقوط كروموسومات ونشوء أخرى. وهذا مثال، لا بل غيض من فيض: في دراسة إيطالية نُشرت في حزيران/يونيو الماضي في مجلة “iScience”، استخدم الباحثون الواقع الافتراضي لاختبار تأثير استبدال يد بشرية بتطعيم افتراضي لأداة نهائية على التجسيد والسلوك. فأثارت التجارب لدى المشاركين شعوراً لافتاً بالتجسيد يحاكي نظيره الطبيعي أو يفوقه على مستوى سرعة إنجاز المهام الحركية ودقّتها.
وهكذا، قد يكون تطوُّر الجنس البشري، فيزيولوجياً وسلوكياً، بإزاء ثورات جذرية وشيكة من “إعادة البرمجة” العضوية. من الاستخدام الطبيعي للأدوات الآلية إلى الدمج التام للبيولوجيا بالآلة وما بينهما. فبعد آلاف أو ملايين السنين على هذا المنوال، قد يعود أحفادنا – البشريّين أو السايبورغيّين – بالزمن إلى إشكالية الكروموسوم الذكري “الأولمبية” ويضحكون كثيراً في سرّهم.