د. محمد حلاوي
جريدة الحرة ـ بيروت
هو رحل اليوم.
زياد لم يكن فقط موسيقيًا أو كاتبًا أو ملحنًا.
كان فكرة”.
ومن قال إنّ الأفكار لا تموت؟
تموت… نعم.
تُغتال، تُقتل، تنتحر، أو تنسحب خجلة من نفسها ومنّا، وتذوب في صمتٍ قاتم لا عودة منه.
الأفكار تُزهق كما يُزهق قلب بالغ في الخفقان حتى انفجر، في زمن لم يعد فيه الانفجار يُسمع، ولو كان مدوّيًا.
أحبّه اليسار واليمين،
ضحك منه المؤمن والكافر،
صفّق له الحالمون، والساخرون، والمجرمون أيضاً…
لكنه لم يكن أبدًا جزءًا منهم.
كان من طينة مختلفة.
عاش زياد في المسافة:
بين الثورة والمسرح، بين الحلم والهذيان،
بين مراهقة الشيوعية ووهم الصراع الطبقي في بلد تقتله الطائفية،
بين الإيمان بالمستحيل والسخرية من كل شيء.
نودّعه اليوم، كما ودّعنا كل من يشبهه:
بصمتٍ متهالك، وبحرقة فراق على أحبة يرحلون تلو بعضهم البعض.
ماتت الفكرة… والفكرة هذه المرة كانت زياد.
كان زياد حاضرًا في مراهقة جيلٍ كامل، في وعيه، في علاقاته العاطفية، في ثقافته ومزاجه وتناقضاته.
رحيله اليوم ليس فقط وداعًا لفنان أو مفكر أو موسيقي،
بل هو وداعٌ لجزءٍ من ذواتنا، لمرحلةٍ بأكملها من عمر هذا الجيل الذي عاش التسعينات والثمانينات على إيقاع حضوره.
نشعر اليوم، ومع كل رحيل، أن هويتنا الثقافية والفكرية تضمحل، رويدًا رويدًا،
أننا نفقد أنفسنا قطعةً تلو الأخرى،
لكن عزاءنا أن زياد وأمثاله باقون رموزًا في فكرنا،
سواء حضروا أو غابوا،
وهذه الفكرة وحدها قد تواسينا… وتخفف من وطأة الغياب.
وبكلماتٍ مؤثرة تعكس حجم الخسارة الوطنية، نعاه رئيس الجمهورية جوزاف عون قائلاً: “زياد الرحباني كان حالة فكرية وثقافية متكاملة وضميرًا حيًّا وصوتًا متمردًا على الظلم، كتب وجع الناس وعزف على أوتار الحقيقة”.
أما الوجع الأعمق، فهو وجع الأمّ.
فيروز — السيّدة التي غنّت للحياة كما لم يغنِ أحد — تواجه اليوم الصمت الأصعب.
هو ليس صمت المسارح، ولا انقطاع الألحان، بل ذاك الذي ينفجر في قلب أمّ فقدت الابن الذي كان لها أكثر من ابن.
زياد، الذي كان لها رفيق دربٍ فنّي وفكري، الذي عجنَ روحها بصوته، وألبس أغنياتها ألحانًا بكلماتٍ من طين هذا الشرق المتعب… رحل.
رحل وترك خلفه وجعًا فيروزيًا لا يُقال، لا يُغنّى، لا يُعزف.
ولعلّ أغنيتهما الخالدة “كيفك إنت” لم تكن مجرّد أغنية، بل كانت في لحظة ما رسالتهما إلى بعضهما البعض.
وكان هو، الحاضر الغائب في كلماتها، المستمع العارف أنها لم تكن تسأل فقط: كيفك إنت… ملا إنت؟
اليوم، تُطرح هذه الأسئلة من جديد، لكن فيروز لا تغنيها.
هي تردّدها في قلبها بصوتٍ لا يسمعه أحد…
تبحث عن ابنها بين الذكريات، بين الألحان، بين الورق الأصفر والبيانو الصامت.
وإذا كان زياد فكرة، فإن فقدانه هو لحظة انهيار تلك الفكرة في وجدان أمّ تعرف أن ما خسرته ليس فقط ابنًا… بل شريك درب، وظلّ لصوتها، وروح خرجت من روحها.
“بدي إياك، بدي إرجعلك
خبّرني… شو صار؟”
لكن لا أحد سيُخبر فيروز بما صار.
ولا أحد، مهما كتب، سينجح في أن يصف وجعها.
زياد: أنا صار لازم ودعكم (وأوصيكم بالوطن)
فيروز: دايماً بالآخر في آخر وفي وقت فراق.
“السما لح تفرح بوصولك”.
وداعًا لفنان مشاغب أزعج كل من تطاول على وطن…
وداعًا… زياد.


