د. بشير عصمت
جريدة الحرة ـ بيروت
“الفن العظيم لا يساوم، بل يكشف حقيقة الأمم” – “بابلو بيكاسو”
لا تأتي المصائبُ في بلادنا إلا مواكب، تحمل معها رائحة الخراب وتدمي القلوب. رحل زياد، وتركنا أمام سؤالٍ يتيم: هل كان حيًّا بيننا حقًّا أم أنّه كان حلمًا مؤقّتًا أعارته السماء للبنان ؟ وهل سنبقى أحياء بعده، أم سنكتشف أنّنا أشباحٌ نمشي فوق رماد وطنٍ يذهب إلى العدم، بينما عصابة السلطة ترقص على خرابنا كأنها قدرٌ مكتوب؟ أيُّ كابوسٍ هذا الذي يستيقظ فينا كل يوم ولا ينتهي؟
زياد لم يكن ينتظر تصفيق هؤلاء الذين يدّعون الإعجاب بعد رحيله، وهم في حياته خصوم وأعداء فنه الحرّ. كان رؤيويًا، يساريًا بوضوحٍ لا يخجل، إنسانيًا حتى العظم، ضدّ الطائفية والطوائف، ضدّ كل سلطة تُقسم الناس إلى زواريب وجحور، بينما الطوائف تصدح بنشيدٍ واحد: فلنؤبّد الخراب.” كان يكتب نوتة الكرامة وكأنها جنسية هذا الشعب، ليكون الوطن حرًّا، والشعب سعيدًا، والحبّ أوسع من جدران المذهب.
ابتسامة المذبوح كانت بسمته، وكان يحيك ملاحظاته على هامش التنبيه من سقوطنا، الأصيل الذي فهم علم الاجتماع كأنه دم يسري في شوارع بيروت، والسياسيّ الذي فكّك المشهد كما يفكك أعقد الألحان، والمحلّل الذي استشرف مآلات الخراب قبل أن نغرق فيه. هو ابن فيروز وعاصي، نعم، لكنّه في المقام الأول ابن هذا الشعب المقهور الرائع، ابن فلسطين، وابن بيروت يوم كانت مدينة للحبّ والحرية لا لفرز الدم على الطوائف.
هو الامتداد المتمرّد للمدرسة الرحبانية: يقيم في الجاز الشرقي، ويشيّد جسورًا بين البلوز والعتابا، ويضع وترًا على جرح، ويقول للناس: “هذه موسيقاكم… هذا وجعكم… وهذه ضحكتكم الّتي لا تُهزم.”
زياد،
آخر وترٍ لم ينكسر، يا معلّم حتى حين يسدل الليل سواده، كيف تمضي وتتركنا في مواجهة موتٍ بطيء بلا موسيقى، ولا قهوة بمرارة ما تحذرنا منه
ولا سهريّة تُعيد إلينا بعض حقيقتنا؟
إنك ترحل مخذولًا حين قلتَ إن الحرب ليست قدرًا، وإن الطوائف ليست أوطانًا، وإن الحب وحده يسع البلاد، فانتصر علينا الوحل، وانتصرت علينا هذه العصابة التي تبيعنا في سوق الطائفية، لكنّك لم تتخلَّ، بل قاتلت بالكلمة المليئة بالمعاني، وأشهرت اللحن في وجه المدفع، ووقّعت باسم الناس على بيانات لم يجرؤ السياسيون على قراءتها.
أيّها الغائب الحاضر، سيبقى عزفك بوصلة لشبابٍ ضائع، سيفتقدك و يزيد ضياعا، وستبقى كلماتك سكاكين في وجه الظلم، سنراك في الشوارع، في الاحتجاجات، في العيون التي لم تنسَ أن الكرامة هي معنى الحياة.
سنراك قنديلًا يحرس بيروت، وملحًا على جرح هذا الشرق،
ونايًا يصرخ لفلسطين.
إلى فيروز الأمّ، إلى العائلة التي أعطت لبنان صوته الأجمل، إلى رفاقه ومحبّيه، لكم العزاء الوطني المشترك، وللبنان حداد يليق بمن كان وطنًا بحاله.
نطالب بدقيقة صمت… لا؛ بل دهرٍ من الصمت على هذا الخراب،
وبقرار واضح: لنعد وطنًا سيدًا حرًا مستقلًا.
سلامٌ لروحك، سلامٌ لمن كان يعرف كيف يضحكنا من شدّة البكاء، وسؤالان يتركان في الحلق شوكة لا تُنتزع: هل كنت حيًّا بيننا حقًّا؟
وهل سنبقى أحياءً من بعدك، أم مجرّد صدى لضحكتك الأخيرة؟
تمّوز، يومٌ حزينٌ آخر، لكنّك، رغم كل شيء، ستبقى هنا… في قلب الوطن الحر، وفي حلم الشعب السعيد. ربما كنت ستفرح لو التقيت جورج إبراهيم عبدالله، لكن القدر شاء أن ينتزعك في اليوم التالي، وكأنك وفّرت على نفسك سُمة البدن الإضافية، إذ استُقبل جورج بمنع المناضلين الحقيقيين من الوصول،
وتربّعت في الاستقبال وجوه الطبقة “الارتوازية” التي قاومتك حيًّا و قاومت جورج وتكذب عليك ميتًا.
“كنتُ أبحث عن وطنٍ يشبه الموسيقى… فوجدتُكم تبحثون عن طائفةٍ تشبه القبر”


