الحرة بيروت – بقلم زياد الصّائغ
إرتَحَل البابا فرنسيس دونَ صَخَب. شاء أن يترّأس قُدّاس الفِصْح ويُخاطِب الجموع الحاشِدة في ساحة القدّيس بطرس بِصَوتٍ دافئ. لم يُرِد أن ينَغِّص على المسيحيّين الكاثوليك والأرثوذكس والأرثوذكس الشرقيّين عيدَهُم الموحّد. مِن على كُرسيِّه المتنقِّل أعْلَن بوضوح أنَّ الحاجة مُلِّحة لِوَقْف كُلّ الحروب. آلَمَهُ نَزْفُ الدِّماء. أغْضَبه الدّمار. أبكاهُ زهْقُ الأرواح. كان فرنسيس رجُل سلامٍ وأُخُوّة.
قد يعتقِد البَعْضُ أنّ فرنسيس رجُل دينٍ، ومن الطّبيعيّ أن يشكِّلَ السَّلام مع الأُخُوَّة رُكنَين بنيويّين في نضالِه، والحقيقَةُ أنّ من يُتابِع مسارَهُ يقتنِعُ بالعُمْق كم جَعَل من التّكامُل بين البُعْد اللّاهوتيّ والوقائع الجيو-سياسيّة، كم جعَلَ من هذا التكامل بُوْصلَة في ترسيخ مَفْهومِ استعادة الخيرِ العامّ للشأنِ العامّ.
لم يستسِغ فرنسيس الحِلْف الذي يجمَع موضوعيّاً معسكرات إنتاجِ الأسلحة وتصديرها. لم يَهْضِم أيضاً عَسْكَرَة الأديان، كلّ الأديان. من هُنا استَوْلَد لهُ عداواتٍ على مَسَاحة الكَوْن. الحروب في كُنْهِه غيرُ أخلاقيّة، هزيمة للجميع. أيُّ ادّعاءٍ للانتِصار فيها وَهْمٌ. السّلام عِنْدُه عدالة، ومن غير المُمكِن تبرير اعتداءاتٍ على أيّ سيادة وطنيَّة.
أوكرانيا شكَّلت لَهُ في هذا السِّياق محطَّةً موْجِعة مستفزَّة. زيارتُه إلى السّفارة الرّوسيّة لدى الكرسيّ الرّسوليّ خارقًا القواعد الديبلوماسيَّة (25/02/2025)، أتَتْ إعلاناً جريئاً عن استيائِه من تسعيرِ الصّراع القائِم بخياراتٍ أيديولوجيَّة، كما تنزيهاً لِأيّ محاولة إلباسِ الصّراع القائم، والذي انخرطت فيه أوروبا دون أيّ التباس، تنزيهاً لِأيّ سعيٍ لإسقاط سِمَةِ مواجَهَةٍ كاثوليكيّة-أرثوذكسيَّة على هذا الصّراع. ردُّ فرنسيس من ثمَّ على تحميل زيارتِه طابعاً تطبيعيّاً مع العدوان الرّوسيّ لم يتأخّر. إستقبل بعد عامٍ ونيِّف الرّئيس الأوكراني بحَفَاوةٍ ما فوق بروتوكوليَّة (11/10/2024). هنّأهُ على شجاعتِه في الذَّودِ عن سيادة أوكرانيا، وحثَّهُ على المبادرة لتحقيق سلام الشّجعان.
قَبْل كُلّ ما سَبَق كان توقيع البابا فرنسيس مع شيخ الأزهر الدّكتور أحمد الطيّب وثيقة الأُخُوّة الإنسانيّة (04/02/2019) في أبو ظبي منعطفاً استراتيجيّاً في تاريخ العلاقات المسيحيّة-الإسلاميّة. كرّس هذا المُنْعَطف الاستراتيجيّ في لقائِه مع السيّد السيستاني في النّجف (06/03/2021)، وثبّت فيه مندرجات هذه الوثيقة، ليُطلِق السمبيوز الدّيني في لقائِه وصلاتِه مع ممثّلين عن كُلّ الأديان في العِراق في مدينة أور التّاريخيّة، ويُصرّ على نبْذِ التطرّف والإرهاب بقَوْلِه: “من هذا المكان، ينبوع الإيمان، من أرض أبينا ابراهيم، نؤكّد أنّ الله رحيم، وأنّ أكبر إساءَةٍ وتجديف فيه أن نُدنِّس اسْمَهُ القُدّوس بكراهيَّة إخوتِنا”.
بَكَى فرنسيس وَجَع لبنان وشَعْبَهُ. زَجَر منظومَتَه السّياسيّة. لم يتوانَ عن توبيخٍ أخويّ لمرجعيَّاتِه الرّوحيّة بدءاً بالكنيسة. رَفَع القضيَّة اللّبنانيّة إلى حالةٍ حضاريّة يُقْتّضى إنقاذُها. رفَضَ حِلْف الأَقليّات المتلّطي بديكتاتوريات، وثيوقراطيّات، وأوتوقراطيّات، تدّعي حماياتٍ قاتِلة. أرادَ أن يتحرّر لبنان من قبْضَة اللّاشرعيّة والفساد. أصرّ على أهميّة قيام دولة مواطنة حرَّة سيّدة عادلة مستقلّة، حيثُ العيشُ الواحِد ميزَة تفاضُليّة ضمن دستورٍ مَدنيّ.
إرتجَف فرنسيس لآلام فلسطين. لم يألُ جُهْداً في تعبيد الطّريق أمام خيار تحقيق العدالة تمهيداً للسّلام. فلسطينُ في قلبِه تحتاجُ مَسْحَةً خلاصيَّة. يكفيها ما عانته من جروحٍ منذ 77 عاماً.
البابا فرنسيس غيرُ تقليديّ. مُزعِج. هو بابا الدّيبلوماسيّة البيضاء. الكنيسة الكاثوليكيّة معنيَّة بتفعيل هذه الدّيبلوماسيّة وفاءً وأمانة.
*زياد الصّائغ: باحث في الشؤون الجيوسياسية
رابط المقال: https://hura7.com/?p=50752
رابط العدد: https://hura7.com/?p=50468