الأحد, نوفمبر 9, 2025
21.4 C
Beirut

الأكثر قراءة

إصدارات أسبوعية

سلاح «حماس»… وهم السلام المزيّف

محمد عبد اللطيف

 

جريدة الحرة ـ بيروت

منذ أن خرج الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” علينا من على منصته البيضاء، متحدثاً عن «السلام الأبدي» عقب لقائه برئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، كان واضحاً أن ما يُحاك ليس سوى فخ سياسي وأمني، يهدف لتجريد الفلسطيني من آخر ما يملكه: إرادة المقاومة. إنهم لا يريدون أرضاً تُرسم حدودها ولا دولةً تُرفع أعلامها، بل يريدون شعباً منزوع الروح، بلا سلاح ولا ذاكرة ولا أمل. وما يُطرح اليوم تحت عنوان «خطة السلام» ليس سوى إعادة إنتاج لجوهر المشروع الصهيوني منذ نشأته: استسلام مطلق مقابل فتات وعود كاذبة.

بين خيارين كلاهما موت

اليوم وُضعت حركة «حماس» أمام معادلة جهنمية: إمّا أن تقبل بنزع سلاحها، فتوقّع بذلك على شهادة وفاتها السياسية والعسكرية، أو أن ترفض وتُتهم بأنها السبب في استمرار نزيف الدم في غزة. هذه ليست معادلة جديدة، بل نسخة مكررة من سياسة الاحتلال القائمة على تحويل الضحية إلى جلاد، وتبديل الأدوار حتى يبدو القاتل مظلوماً والمظلوم مسؤولاً عن مأساته.

لكن السؤال الأهم: حتى لو سلّمت «حماس» سلاحها كاملاً، هل ستفتح أبواب دولة فلسطينية ذات سيادة؟ هل سيتحوّل ترامب إلى حمامة سلام بعد أن كشف عن انحياز لم تعرفه الإدارات السابقة؟ هل سيصبح نتنياهو ـ أو من سيأتي بعده في ظل تصاعد الفاشية الإسرائيلية ـ زعيماً يبحث عن تسوية عادلة؟ الأرجح أن الإجابة الواضحة: لا.

دروس التاريخ القريب

منذ مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو وما تلاهما من مفاوضات عبثية، كان الدرس واحداً: أن الاحتلال لا يرى في الفلسطيني سوى عائق يجب كسره. الزعيم الراحل ياسر عرفات قدّم أكبر تنازلات في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية حين أعلن نبذ ما وصف بـ«الإرهاب»، واعترف بحق إسرائيل في الوجود مقابل مجرد اعتراف بها كمنظمة تمثل الشعب الفلسطيني. ماذا كانت النتيجة؟ محاصرة الرجل في مقره، اغتياله سياسياً ثم جسدياً، والترويج بعد رحيله أن «العقبة الكبرى» قد أزيلت وأن طريق السلام صار ممهداً. لكن لا شيء تغيّر، بل ازداد المشهد قتامة.

أما خليفته محمود عباس، فقد راهن على «حسن النوايا» بلا حدود، فجرّم كل فعل مسلح، وكرّس التنسيق الأمني، وأغرق مشروع التحرر في روتين إداري بائس. ومع ذلك لم يحصل حتى على فتات «دولة» أو كيان سياسي، بل مُنع أخيراً من دخول الأراضي الأمريكية للمشاركة في اجتماعات الأمم المتحدة، فيما يُستقبل قادة الاحتلال رغم كونهم ملاحقين بجرائم حرب.

الفلسطيني الجيد… هو الفلسطيني الميت

في العقلية الصهيونية لا مكان لفلسطيني حيّ يقاوم، أو حتى فلسطيني يفاوض. سواء كان عرفات الذي حاول الجمع بين السلاح والدبلوماسية، أو عباس الذي وضع كل البيض في سلة التسوية، أو يحيى السنوار الذي فجّر «طوفان الأقصى» في محاولة لتغيير قواعد اللعبة، فالنتيجة واحدة: كل نفس فلسطيني مقاوم يجب سحقه.

حتى حين يطرق الفلسطيني أبواب المحاكم الدولية بحثاً عن العدالة، يُتهم بممارسة «إرهاب دبلوماسي». وحين يطلق رصاصة دفاعاً عن بيته يُدان بـ«الإرهاب المسلح». إنهم لا يريدون سوى فلسطيني واحد: الميت، أو المستسلم بلا شروط.

وهم النزع مقابل السلام

تسويق فكرة أن تسليم سلاح المقاومة سيقود إلى حل الدولتين ليس سوى خدعة كبرى. فالمجتمع الدولي الذي يطالب الفلسطيني بالكف عن المقاومة هو نفسه الذي يغضّ الطرف عن الاستيطان وجرائم الحرب والحصار. بل إن واشنطن اليوم تعرض على غزة مجلس «سلام» برئاسة ترامب، وبمشاركة «توني بلير» ـ الذي يصفه ترامب بـ«الرجل الطيب» ـ في مشهد كاريكاتوري يذكّرنا بعهود الانتداب والاستعمار، حين كان مصير الشعوب يقرّر في عواصم بعيدة دون أن يُستشار أصحاب الأرض.

المقاومة جيل بعد جيل،،،

حتى لو أُجبرت «حماس» على الاختفاء من المشهد، فإن المقاومة لن تموت. من خرج من نكبة 1948 أنجب مقاتلي «فتح» و«حماس» وسواها، ومن يعيش اليوم تحت قصف غزة سيُنجب جيلاً أشد بأساً وأكثر شراسة. هؤلاء الأطفال الذين يشاهدون بيوتهم تُهدم وآباءهم يُقتلون وأمهاتهم يُشرّدن، لن يكبروا في فراغ. سيكبرون وفي قلوبهم جمر الانتقام، وفي عقولهم قناعة أن العالم كله تواطأ على مأساتهم.،،،

حينها قد يترحّم العالم على «حماس» التي، رغم كل ما قيل عنها، لم تمارس «إرهابها» خارج الوطن المحتل، بل حصرت سلاحها في مواجهة الاحتلال. أما الجيل القادم فقد لا يعرف قيوداً ولا حدوداً.

الخلاصة: مسمار جحا جديد

إن الحديث عن سلاح «حماس» ليس إلا «مسمار جحا» جديداً، يُراد من خلاله تبرير استمرار الاحتلال ومصادرة الحق الفلسطيني في المقاومة. فما معنى أن يُطلب من الضحية أن يسلّم أداة دفاعه قبل أن ينال حريته؟ أي عدالة هذه التي ترى في صاروخ محلي الصنع خطراً على الأمن العالمي، ولا ترى في ترسانة نووية إسرائيلية تهديداً للإنسانية بأسرها؟

إن السلام الحقيقي لن يولد من نزع السلاح بل من نزع الاحتلال. وكل ما عدا ذلك ليس سوى مراوغة لإدامة الأمر الواقع. وما دامت العدالة غائبة، فإن المقاومة ستبقى ـ بأشكالها المختلفة ـ لغة الشعوب المقهورة في مواجهة الطغيان.

على من يروّجون أوهام السلام أن يدركوا: لا يمكن إخضاع شعب كامل إلى الأبد. قد يُحاصر، قد يُجوّع، قد يُقتل ويُهجّر، لكن جذوة الحرية لا تموت. إن الرهان على موت الفلسطيني أو استسلامه المطلق هو رهان على وهم. وسلاح المقاومة ـ أيّاً كان اسمه أو لونه ـ ليس المشكلة، بل هو الجواب الطبيعي على احتلال يصرّ على تحويل غزة إلى جحيم مفتوح، والضفة إلى كانتونات محاصرة.

سيأتي يوم يُكتب فيه على جدران فلسطين: هنا قاوم شعب، لم يُسلّم سلاحه، ولم يقبل أن يُدفن حيّاً باسم «السلام الأبدي». وساعتها لن يكون السؤال عن سلاح «حماس»، بل عن عدالة غائبة، وعن عالم شارك في جريمة كبرى ضد الإنسانية.

كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية.

https://hura7.com/?p=67623

الأكثر قراءة