محمد عبداللطيف
جريدة الحرة ـ بيروت
منذ بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، ظل مفهوم “الشرق الأوسط الجديد” مشروعاً عائماً تتنازعه القوى الكبرى. لكنه اليوم يعود إلى الواجهة ليس كخطة تنموية أو شراكة اقتصادية كما حاول البعض أن يروّج له، بل كمنصة صراعية مرجعيتها تل أبيب. والهدف الأساسي فيها بات واضحاً: إزاحة إيران عن طموحاتها النووية والجيوسياسية، وإعادة صياغة توازنات الإقليم بما يخدم أمن إسرائيل كأولوية مطلقة.
الضربات العسكرية الأخيرة التي استهدفت منشآت نووية إيرانية لم تكن سوى فصل جديد في هذا السيناريو الطويل. ورغم كل التهويل الإعلامي، لم تحقق هذه الضربات ما يكفي لتحييد قدرات طهران أو إضعاف بنيتها الاستراتيجية. لكن أثرها السياسي كان أعمق: تعليق المفاوضات، وفتح الطريق أمام تصعيد جديد تقوده “ترويكا” أوروبية تحاول اللحاق بالركب الأمريكي ـ الإسرائيلي بعدما ظلت لسنوات تتأرجح بين الحياد والوساطة.
التحركات الأوروبية لا تحمل رؤية مستقلة، بل تبدو كظلّ لسياسات واشنطن وتل أبيب. باريس وبرلين ولندن تلوّح بآليات إعادة العقوبات، وتعيد إنتاج خطاب “التهديد النووي” ذاته الذي سبق أن استُخدم ضد العراق في 2003. غير أنّ هذه الخطابات تكشف أكثر مما تخفي: عجز أوروبا عن بلورة سياسة خارجية ذاتية، وارتهانها المستمر لإيقاع البيت الأبيض وضغط اللوبي الإسرائيلي، مهما حاولت التظاهر بالاستقلالية.
هنا يبدو التاريخ وكأنه يعيد نفسه. فكما صاغت إدارة بوش مبررات “أسلحة الدمار الشامل” لتبرير غزو العراق، نجد إدارة ترامب اليوم ومعها الترويكا الأوروبية تنسج خطاباً جديداً حول “اليورانيوم المخصب” الإيراني. الفارق الوحيد أن بوش كان يقود منفرداً، بينما ترامب يسعى لجرّ العواصم الأوروبية خلفه، ليظهر بمظهر التحالف الدولي الذي يملك غطاءً سياسياً أوسع من مجرد شراكة أمريكية ـ إسرائيلية.
في هذا السياق، تتضح أهمية التحركات الموازية التي يقوم بها المبعوث الأميركي باراك في لبنان ودمشق. فالمهمة المعلنة تبدو “دبلوماسية” محضة، لكنها في جوهرها تهدف إلى تطويق النفوذ الإيراني في المجالين اللبناني والسوري، حيث تشكل المقاومة في الجنوب اللبناني والدور الإيراني في سوريا حجر الزاوية في معادلة الردع الإقليمي. واشنطن تراهن عبر هذه التحركات على إضعاف حلقات طهران الخارجية، تمهيداً لفرض شروط أقسى عليها في الملف النووي، في ما يشبه عملية “تحجيم جيوسياسي” لإيران قبل الدخول في أي مسار تفاوضي جديد.
من جانبها، تبدو طهران وكأنها تتحرك بوعي من يدرك قواعد اللعبة الطويلة. فالمسألة بالنسبة لها لم تعد محصورة في تخصيب اليورانيوم أو الكشف عن مخزونات سرية، بل هي معركة وجودية تتعلق بمكانتها الجيوسياسية كدولة إقليمية كبرى لا يمكن تجاوزها. إن تعليق التعاون مع الوكالة الدولية أو رفع سقف التحدي أمام العواصم الأوروبية ليس مجرد رد فعل، بل رسالة تقول: “لن نُقصى من معادلة الإقليم، ولن نُحاصر إلا إذا سقطت المنطقة كلها في فوضى”.
ومع هذا التصعيد، تبدو المنطقة أمام خيارين كلاسيكيين: إما انزلاق نحو مواجهة عسكرية جديدة ستشعل الخليج وما وراءه، أو الدخول في مسار دبلوماسي محكوم بشروط القوى الكبرى. لكن اللافت هذه المرة أن “الخيار الدبلوماسي” نفسه يُدار من تل أبيب، فهي صاحبة المصلحة الأولى في منع إيران من بلوغ أي عتبة نووية، وصاحبة النفوذ الأوسع على إدارة ترامب المترددة بين التهديد بالحرب والبحث عن “صفقات استعراضية” مع موسكو أو بكين.
إن “الشرق الأوسط الجديد” الذي يُعاد رسمه اليوم ليس سوى إعادة إنتاج لخرائط القوة ذاتها التي أفرزتها حرب العراق وسوريا واليمن. الجديد فقط أنّ أوروبا دخلت المشهد كصوت متأخر، يلوّح بالعقوبات ويدّعي الشرعية الدولية، فيما الحقيقة أنها تحاول إنقاذ واشنطن من عجزها وإسرائيل من هواجسها.
لكن يبقى السؤال: هل يمكن للمنطقة أن تستسلم لقدر مرسوم من الخارج مرة أخرى، أم أن صراع الإرادات ـ بين واشنطن وتل أبيب من جهة، وطهران وموسكو وبكين من جهة أخرى ـ سيفضي إلى توازن جديد يطيح بمفهوم “شرق أوسط مرجعيته تل أبيب”؟
إن الخرائط التي تُرسم اليوم في مراكز القرار الغربي ليست مجرد خطوط على الورق، بل هي خرائط ذهنية لإعادة إنتاج الهيمنة. إنها محاولة لترويض الوعي الجماعي في المنطقة كي يقبل بشرق أوسط مشوّه، مركزه إسرائيل، وتدور فيه كل الدول الأخرى كأطراف هامشية. هذا هو جوهر “الاستعمار الجديد”: ليس الاحتلال المباشر كما في القرون الماضية، بل السيطرة على المسارات الجيوسياسية، والتحكم في موارد الطاقة، وصياغة صورة ذهنية للشرق الأوسط لا مكان فيها لقوة إقليمية مستقلة خارج إرادة المركز.
وإذا لم تنتبه شعوب المنطقة وقواها الحيّة إلى هذه اللعبة العميقة، فإننا قد نجد أنفسنا نعيش في شرق أوسط مرسوم بخرائط الآخرين، بينما تذوب هويتنا وتاريخنا في خدمة أمن تل أبيب ومصالح الغرب.


