الأربعاء, مايو 21, 2025
14.5 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

إصدارات أسبوعية

شعبوية يسارية لمواجهة الشعبوية اليمينية

جريدة الحرة

عن “Philosophie Magazine” – بتصرّف

بقلم: ميشال إلتشانينوف، رئيس تحرير المجلة

في الولايات المتحدة، يبدو أن الديمقراطيين بدأوا يستفيقون من صدمة الانتخابات. والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: ما هي الاستراتيجية التي يمكن أن يعتمدها الحزب الديمقراطي لتحقيق انتصار في الانتخابات المقبلة؟ إحدى المقاربات التي تكتسب زخماً تتمثّل بما يُعرف بـ”الشعبوية اليسارية”، والتي تُجسّدها البرلمانية الشابة، ألكساندريا أوكاسيو – كورتيز. لكن، كل شيء يتوقف على فهمنا الحقيقي لما تعنيه الشعبوية.

حكم القِلّة

بعد أسابيع من الذهول والصمت، بدأ الديمقراطيون الأميركيون يتحركون. إذ نشرت هيلاري كلينتون مقالاً في “نيويورك تايمز” وصفت فيه سياسات الإدارة الجديدة بـ”الغباء الصرف”. وقد اعتبرت أن طرد موظفين حكوميين مختصين بحماية المنشآت النووية أو بمكافحة الأوبئة هو ببساطة “تصرف أحمق”. بيد أنه من غير المؤكد أن يقنع هذا النوع من النقد الناخبين المحبَطين من الخطاب التقني والمتعالي الذي وُصم به جناح المؤسسة في الحزب الديمقراطي.

من جهة أخرى، برزت أسماء جديدة، مثل السيناتور كوري بوكر، الذي كسر الرقم القياسي لأطول خطاب برلماني (استمر أكثر من 25 ساعة متواصلة)، في تعبير عن معارضة شرسة لانتهاكات القانون.

لكن أوكاسيو – كورتيز، التي ترافِق السيناتور “الاشتراكي الديمقراطي” بيرني ساندرز في جولته المعنونة بـ”قاتلوا حكم القِلّة”، تسلك مساراً مختلفاً. فخلال استماعي لخطاباتها، لفتني استخدامها المتكرر لعبارة “البديهة” أو “common sense، والتي كانت تدفع الجماهير إلى تردادها معها. صحيح أن هذه العبارة هي عنوان كتيّب شهير لتوماس باين، أحد آباء الاستقلال الأميركي، إلا أن المفارقة تكمن في أن الرئيس دونالد ترامب كان قد تبنّى سابقاً شعار “ثورة البديهة” لتبرير سياساته المعادية للأجانب والمهمّشة للمتحوّلين جنسياً.

لكن أوكاسيو – كورتيز، البالغة من العمر 35 عاماً، والمعروفة بـ”AOC”، لا تتبنى البديهة كشعار فارغ، بل كأداة سياسية لاستعادة الناخبين الغاضبين من سيطرة المال الكبير على مفاصل الدولة. وفي خطابها، تصف المشهد السياسي بأنه “اختطاف من قِبل المال الكبير”، وتُعلن انخراطها في مواجهة مباشرة مع هذه الهيمنة المالية والسياسية.

أوكاسيو – كورتيز: شعبوية من نوع آخر

في مشهد سياسي أميركي تتصدّره الاستقطابات الحادّة، تبرز أوكاسيو – كورتيز، النائبة الديمقراطية التقدمية، بصوت مغاير لا يقل تحدّياً عن نظيره اليميني، ولكن بمنطلقات مختلفة جذرياً. فهي تقول إن “الترامبيين لا يكرهونها لأنها راديكالية، بل لأنها ابنة الطبقة العاملة، ولأنها كانت تعمل نادلة في السابق”. هذا التصريح وحده إنما يكشف الكثير من جوهر مشروعها السياسي: نقد النخب، وخاصة الديمقراطية منها، والدفاع عن منسيّي المجتمع الأميركي، من ضحايا الفقر والإقصاء الاجتماعي، بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية أو الثقافية.

تبتعد أوكاسيو – كورتيز في خطابها عن الانشغالات الثقافية التي تمزق اليسار – من نقاشات النوع الاجتماعي إلى قضايا “ثقافة الإلغاء” (Cancel Culture) – لتعيد التركيز على هموم الحياة اليومية للأميركيين. وهي إذ تستهدف النخبة المالية والسياسية التي “تحكم البلاد”، تدعو إلى وحدة المتضررين في مواجهة السلطة الاقتصادية، ما يجعلها تُقدّم نفسها بصفتها صدىً لمطالب تاريخية لطالما رفعها اليسار الأميركي، لا سيما “حزب الشعب” الذي نشأ أواخر القرن التاسع عشر تحت راية “الشعبوية”.

لكن، هل ما تقدمه أوكاسيو – كورتيز هو شعبوية فعلاً؟ بحسب المفكر الأميركي توماس فرانك، مؤلف كتاب “الشعبوية، ها هو العدو!”، فإن شعبويتها لا تعني التخلي عن القيم الديمقراطية أو المسّ بدولة القانون، بل العودة إلى جذور النضال الشعبي اليساري، الذي يرى في المواطن العادي – لا في الخبير أو التكنوقراطي – مصدر الشرعية السياسية.

ما يميز مشروعها عن الشعبويات الأوروبية، لا سيّما نموذج جان – لوك ميلنشون، أنها لا تقف في مواجهة المؤسسات الديمقراطية، بل تسعى إلى إصلاحها واستعادتها من يد من أفسدوها، خاصة بعد عهد ترامب. لذلك، فإن النموذج الذي تمثّله أوكاسيو – كورتيز لا يستدعي “الزعيم الملهِم” على غرار هوغو تشافيز، بل تقاليد العمل الجماعي القاعدي، والعدالة الاجتماعية المنفتحة على الآخر.

في الخلاصة، لا تعادي أوكاسيو – كورتيز النخب لكونها نخباً فحسب، بل لأنها تخلت عن الطبقات الشعبية. وهي، في مسعاها لاستعادة الديمقراطية من قبضة الأثرياء، تُعيد الاعتبار لمفهوم الشعبوية بوصفها مشروعاً تحررياً، لا أداة استغلال سياسي. إنها تكتب سردية بديلة لليسار الأميركي، واحدة لا تكتفي بانتقاد اليمين، بل تعيد تعريف من هو “الشعب”، وما هي السياسة، ولمَن تُمارَس.

https://hura7.com/?p=51656

الأكثر قراءة