خاص – الحرة بيروت
قصته ليست استثناءً؛ فهي تعكس واقعاً مؤلماً عاشه الآلاف ممن عادوا إلى قراهم الجنوبية ليجدوا أنفسهم أمام معركة جديدة، ليست معركة الحرب، بل معركة إعادة بناء ما دُمّر، واسترجاع التمسّك بالأمل في وطن حكمه اليأس.
هو أب لأسرة شرّدها قرار “الدويلة” وفرض عليها، كما غيرها من العائلات، النزوح إلى أحد مراكز الإيواء. انطلق فجر البارحة في سيارته بعد إعلان قرار وقف إطلاق النار متجهاً إلى بلدته الواقعة في الجنوب الأقصى. وكان أول المنتظرين على مشارف نهر الليطاني يسابق بزوغ الفجر متشوقاً لسقف منزله الذي لا يعلم ماذا بقي منه. هو التعطّش والحنين للذكريات والجيران ورفاق الدرب.
تجلس الزوجة بجانب شريك حياتها غير آبهة لموجة البرد التي أرادها القدير صعوبة تضاف إلى صعوبات العيش المتعددة التي تزايدت وتيرتها بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة.
في الخلف تجلس الجدّة، وفي عينيها بَرَكة وإيمان رغم الندوبات التي خلّفتها إحدى شظايا غارات العدو.
أما الإبن فيراسل حبيبته عبر الهاتف ليصارحها بخشيته من إستمرار العلاقة والزواج والإنجاب في ظلّ الإحباط الذي يعيشه جرّاء تحديات الحياة التي نجحت في كسر إرادته.
تحمل السيارة على سقفها بعضاً من المساعدات التي قُدّمت إليها من فرش وحرامات، وفي صندوقها القليل القليل مما تيسّر من النقود والملابس والمأكولات التي قد تكون غير كافية لسد حاجات العائلة قبل البدء من جديد.
يأتي كل ذلك والتخبّط قائم بين مطالبات الحكومة اللبنانية النازحين بالعودة إلى ديارهم وإرسال الجيش اللبناني فارغ اليدين من جهة، وتصريح العدو عبر جهاز الراديو، من خلال موجات محلية عمد على خرقها، استمراره بالإنتشار في مواقعه في جنوب لبنان، معلناً أنه سوف يعلم السكان لاحقاً عن موعد العودة بأمان، من جهة أخرى.
تتشارك العائلة الأفكار والآراء لتقدير أهداف ونتائج هذه الحرب وفظاعة أعمال العدو الحقيقي للوطن، كما والأسباب الموجبة لقصف المعابر الحدودية البرية والجوية والمؤسسات المالية بعد انهيار النقد الوطني وتراجعه بنسبة تزيد عن 99%. وتنقسم الآراء حول القدرة على الالتزام بالقرار 1701 ومدى نجاح الحكومة اللبنانية في امتحان القيام بدورها الفاعل.
أما الشيء الوحيد الذي اتفقت عليه العائلة خلال رحلة العودة “اللامضمونة” هو وجوب تسليم الجيش اللبناني زمام الأمور وحل جميع التحركات العسكرية غير الحكومية.
وصلت العائلة فرأت “عصام”، ذلك الرجل المسنّ، رفيق الدرب، قد سبقها ليقف على أنقاض منزله. بين الركام كان يبحث عن حياة مضت وعن ذكريات ضاعت بين دخان القذائف. “لقد صرت غريباً عن قريتي، لا بل عن وطني”… عبارة راح يرددها وهو يجمع بعض الحجارة من بين الركام وكأنه يحاول إعادة بناء ما تهدّم في داخله.
قد تكون إعادة بناء المنازل أسهل بكثير من إعادة ترميم الأرواح المنهكة. وفيما يغمر الليل القرية الحزينة، يبقى الأرز وحده صامداً في وجه الصعاب.