جريدة الحرة ـ بقلم: محمد سعد عبد اللطيف، كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية
لو خُيّرت بين زوال الطغاة وزوال العبيد، لاخترت دون تردّد زوال العبيد. فالعبيد هم من يصنعون الطغاة، وهم من يضعون التاج فوق رؤوسهم، ويُقبلون العصا قبل أن تُرفع فوق ظهورهم. فليس غريبًا أن نرى طائرًا صغيرًا يرفرف بحثًا عن فسحة حرية، بينما يقبع إنسان يحمل خمسة كيلوجرامات من الدماغ، في ركن خنوع، يطلب رضى سيده ويتزيّن بقيوده.
انتهى عصر العبودية الرسمية منذ قرون، ولكن عبودية أخرى بزغت في المجتمعات الريفية، في دول السلطوية والخوف، حيث يلبس المستعبِد ثوبًا وطنيًا أو دينيًا أو عائليًا، ويستعبدُ الناس ليس بالسوط، بل بالخرافة والخوف والمصالح.
أنظر إلى القرى والمجتمعات المغلقة، حينما يكون في العائلة مسؤول أو ضابط أو مستشار، يصبح سيدًا على أعين الناس، يلتف حوله القطيع طوعًا، يرددون أقواله، يقلدون خطواته، حتى في خروجه من المسجد تراهم يسيرون خلفه كظلّه، كأنهم في عرض عسكري لا طقوس عبادة. هذه هي العبودية الطوعية، حيث يغيب الوعي وتحل الهالة محل العقل، ويُقدَّم البشر قرابين للسلطة الاجتماعية قبل أن تكون سياسية.
في مثل هذه المجتمعات، لا يُنظر إلى القانون على أنه عقد اجتماعي ينظم الحقوق، بل كأداة يتحكم بها الأقوياء. فإذا وقع خلافٌ أو نزاع، يُقال لك: “ابعد عنهم، لديهم مستشار وضابط”. وكأن هذه الألقاب تمنح الحصانة لا الأخلاق، وتمنح النبل لا العدالة. هنا تُصنَع أرستقراطية مزيفة، تشبه نبلاء العصور الوسطى، ولكنها أخطر لأنها تنمو في الظل وتُغلف بالدين والعُرف.
ما نشهده ليس مجرد خلل في السلطة، بل ازدواجية في تركيبة المجتمع ذاته: بين من يرى نفسه خارج القانون، ومن يقبل أن يعيش عبدًا في حضرة السادة الجدد. في ظل غياب القانون الحقيقي، يظهر قانون العبيد الجدد: قانون الواسطة، والخوف، والتطبيل.
إن الحرية لا تبدأ بزوال الطاغية، بل بزوال القابلية للعبودية. وكل طاغية، مهما علا شأنه، ما كان ليصمد لولا عبيدٍ حملوه على أكتافهم، وغنوا له، وجعلوه “إلهًا صغيرًا” في قرية، أو حي، أو دولة كاملة.
فليبدأ التغيير من هناك، من تفكيك هذا الخضوع المَرَضي، من تفجير الوعي في رأس الفلاح والمواطن العادي، من زرع السؤال بدل الإجابة، ومن كسر سطوة “مين أبوه؟” لصالح “ماذا يفعل؟”. فالعبودية الطوعية أخطر من أي استبداد، لأنها مرض في روح الجماعة، لا في جسد السلطة.