جريدة الحرة
روني عبد النور
“يضيف العِلم باستمرار، وإن كان تدريجياً، إلى وعينا بالحياة؛ لكن لتحقيق المعرفة الكاملة، فإننا نُعتبر أطفالاً في الظلام”. كلام يعود إلى القرن التاسع عشر على لسان الطبيب الإنكليزي، ويليام ويثي غول. ولأن الشيء بالشيء يُذكر، أكثر ما تنطبق مقولة غول على تعريفنا للوعي إياه وفهمنا لأصوله المبهمة. فالنظريات تتقارب، حيناً، وتتباعد، حيناً آخر. ونحن، في هذا المضمار، أشبه ما نكون بـ”أطفال في الظلام”. حقّاً.
غالباً ما نعرّف الوعي بما يُمكّننا كأفراد من تجربة الوجود واستيعاب المحيط من خلال الحواس وتكوين فكرة، بالمحصلة، عن أنفسنا. لكن، ماذا لو وُجد الوعي ليس فقط في أنظمة بالغة التعقيد، مثل أدمغة البشر والرئيسيات، بل لدى المخلوقات الأقل تطوّراً، والنبات والجماد – ناهيك بالكائنات المختبرية والأجهزة الذكية؟
نعود لهذا السؤال بعد قليل، لكن نعرّج أولاً على دراسة حديثة متّصلة شملت 256 شخصاً وبدأت بورشة عمل بمعهد ألين عام 2018. ركّز البحث، الذي نُشرت نتائجه الشهر الماضي في مجلة “Nature”، على أبرز نظريتين علميتين حول الوعي: نظرية المعلومات المتكاملة (IIT) ونظرية مساحة العمل العصبية العالمية (GNWT). حيث عرض الباحثون على المشاركين محفزات بصرية متنوعة، مستخدمين ثلاث أدوات شائعة لقياس نشاط الدماغ البشري (تتبُّع تدفُّق الدم والنشاط المغناطيسي والكهربائي)، لدراسة أدمغتهم أثناء النظر إلى المحفزات.
بحسب الفريق، تجلّى بوضوح عدم وجود تجربة واحدة تدحض أياً من النظريتين بشكل حاسم. فصحيح أنهما مختلفتان للغاية في افتراضاتهما وتفسيراتهما، لكن الأساليب التجريبية المتاحة لا زالت بدائية لدرجة تمنع منح إحداهما تفوّقاً حاسماً على الأخرى. علماً بأن نظرية المعلومات المتكاملة تُشير إلى نشوء الوعي عندما تكون المعلومات داخل نظامٍ ما (كالدماغ) متصلةً وموحّدة بشكلٍ كبير، وبما يُعادل كمية المعلومات التي يحتويها النظام. بينما تلفت نظرية مساحة العمل العصبية العالمية إلى أن شبكةً من مناطق الدماغ تُسلّط الضوء على معلومات مهمة فيه، ما يجعلها تتصدّر تفكيرنا، فتبثّها على نطاق واسع لحظة ولوجها الوعي، ما يُنتج بالتالي تجربةً واعية.
أظهرت التجارب وجود صلة وظيفية بين الخلايا العصبية في المناطق البصرية المبكرة من الدماغ، الواقعة في جزئه الخلفي، ومناطقه الأمامية. وهو ما يساعد على فهم كيفية ارتباط الإدراك بالأفكار. لكن النتائج تُقلل من أهمية القشرة الجبهية في هذا الإطار، ما يُشير إلى أنه على الرغم من أهمية الأخيرة للتفكير والتخطيط، إلا أن الوعي نفسه قد يكون مرتبطاً فعلياً بالمعالجة الحسية والإدراك.
كذلك، لم تجد الدراسة روابط دائمة كافية في الجزء الخلفي من الدماغ لدعم فكرة نشوء الوعي من رحم ترابُط أجزائه المختلفة وتبادلها للمعلومات، بحسب نظرية المعلومات المتكاملة. ثم، في حين تدعم نظرية مساحة العمل العصبية العالمية فكرة نشوء الوعي في مقدمة الدماغ، إلا أن الدراسة لم تجد دعماً كافياً لهذه الفكرة هي الأخرى. ويبقى الحسم مؤجلاً.
عام 2023، وقّع 124 باحثاً عريضة تتهم نظرية المعلومات المتكاملة بأنها “عِلم زائف”. وهو ما اعترض عليه سرب آخر من العلماء. لكن ثمة معضلة وجودية برزت حينذاك: إذا كانت النظرية الشائعة صحيحة، فقد يجد الوعي موطئ قدم له لدى عدد أكبر من الكائنات مما كنا نعتقد. وهذا ممكن خاصة إذا ما سمعنا عالِم الأعصاب، يوهان ستورم، من جامعة أوسلو، يقول: “منذ مطلع الألفية، يتسارع التقدم في مجال دراسة الوعي. وبعض الأسباب تعود إلى التقدم التكنولوجي الهائل في قياس نشاط الدماغ وتحديد أنماطه على المستوى الخلوي”.
لكن، ما سبب الجدلية المحيطة بنظرية المعلومات المتكاملة، التي كان عالِم الأعصاب الإيطالي، جوليو تونوني، أول من اقترحها عام 2004؟ ببساطة، إنه ربط النظرية لنشوء الوعي بوجود محتوى معلوماتي عالٍ في الدماغ، وبدرجة عالية جداً من التفاعل بين المعلومات في مختلف عناصره وتكاملها. أما بالنسبة لنظرية مساحة العمل العصبية الشاملة، فيشير ستورم: “الفكرة الأساسية هنا هي أن ما يُصبح واعياً إنما هو المعلومات المهمة بما يكفي لبثها إلى أجزاء عديدة من الدماغ. لكن، على الرغم من أن الأخير يتعرض باستمرار لكميات هائلة من الانطباعات، إلا أن معظمها لا يبلغ حدود الوعي أبداً”.
ولأن الجدل لم يُحسم، ثمة من يطرح مُنافساً ثالثاً للنظريتين، وفق بحث نشرته العام الماضي مجلة “Neuron”. إنها نظرية التكامل الشجيري (DIT) التي تصوّر الوعي كوظيفة من وظائف تفاعلات خلايا الدماغ. وفق ستورم: “تشبه كل خلية عصبية جهاز كمبيوتر، بما لديها من آلاف الآليات الجزيئية التي تُعالج المعلومات بطرق مُعقدة داخل الخلية. وفي الوقت نفسه، يُمكن أن يكون لكل خلية أكثر من 20000 اتصال بخلايا عصبية أخرى”.
أظهرت الأبحاث الحديثة أن خلايا الدماغ لا تشبه الترانزستورات البسيطة التي تكون إما مُفعلة أو مُطفأة. وفي الواقع، تمتلك الخلية نظاماً مُعقداً للغاية من الاتصالات وحلقات التغذية الراجعة، حيث تُطابق المعلومات الجديدة التي تصل عبر النظام مع تلك الموجودة بالفعل في الدماغ. وفي بعض الحالات، عندما يتطابق الجديد والقديم، يحدث تفاعُل حيث تُرسل الخلية موجة من النبضات العصبية إلى خلايا أخرى. وهذا، برأي بعض علماء الأعصاب، هو ما يؤدي إلى ظهور الوعي.
يعتقد ستورم أن النظرية تُقدّم تفسيراً مُقنعاً للتخدير العام. فالأخير يُثبِّط قدرة خلايا الدماغ على التواصل داخلياً ومقارنة المعلومات. وبالتالي، فهي تتوقف عن إرسال موجة النبضات التي تُولِّد تجارب واعية. بالطبع، لا تعني قدرة النظرية على تفسير فقدان الوعي بالضرورة قدرتها على تفسير وجود الوعي أو أصله. لكن ثمة خلاصة لا يمكن تجاوزها: فحتى الخلايا الفردية التي تتوسط الوعي معقّدة لدرجة تصعّب احتمالات ظهور نظرية بسيطة تفكّ طلاسم اللغز المتواصل.
في هذا السياق، لدى عالِم الأعصاب، كريستوف كوخ، ما يقوله بإزاء الوعي بصفته لغزاً كونياً مركزياً، بحسب تعريفه. فعلى مرّ السنين، راودت كوخ أفكار عدة – منها المجرّد والتخميني – كأن يصبح الإنترنت واعياً، أو أن تُدمَج أدمغة متعددة معاً، وتُربَط العقول المصاحبة لها توازياً، اعتماداً على قدرات التقدّم التكنولوجي.
في كتابه الجديد، “إذاً، أنا نفسي العالم”، يسعى كوخ للإجابة على أحد أصعب الأسئلة: كيف لأفكارنا – المجردة من أي خصائص فيزيائية – أن تُحدث عواقب في العالم الحقيقي؟ يعود الكاتب إلى فلسفة العقل الغربية التي تدور حول قطبين: المادي والعقلي. فالمادية تقول إن لا وجود حقاً سوى لما هو مادي. بينما تُرجع المثالية كل شيء في جوهره إلى تجليات العقل. أما الثنائية الكلاسيكية، فتتحدّث عن تزاوُج المادي والعقلي ووجوب تفاعلهما بطريقة ما. ويأتينا التتويج من خلال نظرية الروحانية الشاملة (Panpsychism) واعتقادها بأن كل شيء في أصله “متَصل”، مشبع بالخصائص الفيزيائية والعقلية، وذات قدرة على الشعور بالمحيط.
لا شكّ، كما يظنّ ستورم، بأن جزءاً كبيراً من الصراع بين النظريات إنما يدور حول إسناد الباحثين معانٍ مختلفة للكلمات والمفاهيم. فهم يحاولون شرح أشكال مختلفة من الوعي، ويركزون على آليات ذات مستويات متباعدة تماماً. لكن الوقت داهم. واحتمال أن يأخذنا الذكاء الاصطناعي على حين غرّة مكتسباً بعض – أو كل – خصائص الوعي قبل أن نتمكن فعلاً من فهم الأخير كما يجب، قائم بدوره. أما أن يتمكُّن الذكاء الاصطناعي في الأثناء من دمج البعدين الذكي والواعي لوجودنا، فقد يرسم حيّزاً واسعاً من أفق مستقبل الكوكب وقاطنيه. نحن الذين اعتبرنا غول “أطفالاً في الظلام”.
المراجع:
https://www.nature.com/articles/s41586-025-08888-1
https://www.cell.com/neuron/fulltext/S0896-6273(24)00088-6