خاص – سيكون لانسحاب القوات الأمريكية من ألمانيا عواقب سياسية واقتصادية بعيدة المدى. وسيصبح الهيكل الأمني في أوروبا موضع اختبار. ففي ظل الوضع الأمني الدولي المتغير والمتوتر بالفعل، أثار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إمكانية الانسحاب الكامل للقوات الأمريكية من ألمانيا. وأكد ترامب أن جزءاً كبيراً من الجنود البالغ عددهم 37 ألف جندي يمكن نقلهم إلى المجر. ويتمركز جنود الجيش الأمريكي في 38 قاعدة عسكرية في أوروبا، بما في ذلك أكثر من 20 قاعدة في ألمانيا وحدها.
وبالإضافة إلى أهميتها في السياسة الأمنية، تلعب هذه القواعد دوراً اقتصادياً مهماً بالنسبة لألمانيا: إذ يعيش عشرات الآلاف من أقارب الجنود في المناطق المحيطة بها. وتستفيد الشركات المحلية من ذلك، إذ تعتمد العديد من الوظائف في البلاد على الجيش الأمريكي. فالانسحاب المفاجئ للقوات الأمريكية من شأنه أن يؤثر على الوضع الأمني والاستقرار الاقتصادي.
لماذا يفكر دونالد ترامب في سحب القوات الأمريكية؟
إن حقيقة أن ترامب يفكر في سحب القوات الأمريكية من أوروبا ليست جديدة على الإطلاق. لقد سبق له أن سعى لتحقيق نفس الهدف خلال فترة ولايته الأولى. لكن النقاش الحالي يطرح سؤالاً أكثر خطورة: مستقبل حلف شمال الأطلسي “الناتو”. ويثير ترامب تساؤلات متزايدة حول استمرار وجود التحالف الدفاعي. فقد أجاب، في مارس 2025، محذراً الدول الحليفة: “إذا لم يدفعوا، فلن أدافع عنهم”، وذلك رداً على سؤال ذات صلة.
لا شك أن التحول الذي طرأ على موقف ترامب يتعزز بسبب الوضع الحالي الذي تعيشه أوكرانيا في ظل الحرب منذ فبراير 2022. ففي عهد جو بايدن، كانت الولايات المتحدة الحليف الأكثر أهمية لأوكرانيا – ومع تنصيب ترامب، تغير ذلك بشكل كبير. فالأخير يحاول فرض السلام في أوكرانيا. ومن خلال القيام بذلك، فإنه يستغل عمداً اعتماد أوكرانيا على الولايات المتحدة.
وفي طريقه إلى المفاوضات المحتملة، فهو دفع بالفعل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى توقيع صفقات مواد خام بقيمة نصف تريليون دولار. وفي الوقت نفسه، أوقف المساعدات الأمريكية لأوكرانيا بشكل كامل، ويتحرك بشكل متزايد نحو تحسين العلاقات مع روسيا، سياسياً وخطابياً. وفي ضوء هذه التطورات، يُطرح السؤال ما إذا كانت الولايات المتحدة في عهد ترامب لا تزال جزءاً من التحالف الغربي.
منذ تأسيس حلف شمال الأطلسي “الناتو” في عام 1949، عمل التحالف على ضمان الأمن في أوروبا الغربية. فانسحاب الولايات المتحدة يتطلب إعادة التفكير الجذري وتحقيق قدر أكبر من الاستقلال في السياسة الأمنية لأوروبا. وسوف يتعين على أوروبا أن تجد كافة السبل بأسرع ما يمكن لملء الثغرات التي سيتركها الأمريكيون في البنية الأمنية.
كيف تتفاعل ألمانيا؟
وإذا نظرنا إلى النقاش السياسي الداخلي الحالي في ألمانيا، فمن الواضح أن صناع القرار يستعدون لمثل هذا السيناريو. ففي مارس 2025، قدم شركاء الائتلاف المحتملون من الحزب الديمقراطي المسيحي/الاتحاد الاجتماعي المسيحي والحزب الاشتراكي الديمقراطي خطة لاستثمارات ضخمة في الدفاع والقوات المسلحة الألمانية – وهي إشارة واضحة إلى أن ألمانيا مستعدة لتحمل المزيد من المسؤولية على المستوى الأوروبي.
أصبحت قضية التجنيد الإلزامي، علاوة على ذلك، تشكل على نحو متزايد محور التركيز في الفترة التشريعية مستقبلاً. ويرى كثيرون أن إعادة إدخاله أمر لا مفر منه في ظل الوضع الأمني الحالي.
ما هو الدور الذي تلعبه القواعد الأمريكية في ألمانيا؟
تعمل القواعد الأميركية في ألمانيا من الناحية العسكرية، في المقام الأول، كمراكز استراتيجية للعمليات العالمية. وتُعتبر القاعدة العسكرية في رامشتاين ضرورية للنقل الجوي والدفاع الجوي لحلف شمال الأطلسي “الناتو”، كما توجد القيادة الخاصة بأوروبا وأفريقيا في شتوتغارت، وتُعد فيسبادن موطناً للقيادة العامة للجيش، بينما يتم تدريب القوات في جرافينفور. لكن على مر العقود، تطورت البنى التحتية حول هذه القواعد التي أصبحت راسخة بعمق في الدورات الاقتصادية المحلية.
تظهر بيانات عام 2020 أن الحكومة الأمريكية تدعم هذه المواقع باستثمارات كبيرة – وهي الميزة التي يستفيد منها الاقتصاد الألماني. وبحسب وزارة الدفاع الأمريكية، بلغ الإنفاق على القواعد العسكرية في عام 2020 وحده نحو 7.2 مليار دولار. للمقارنة: تساهم ألمانيا بنحو 130 مليون يورو سنوياً في تكاليف تمركز القوات الأمريكية.
تُعتبر الفوائد الاقتصادية للمناطق المتضررة كبيرة. فوجود الجيش الأمريكي يخلق فرص عمل، والجنود الذين يحصلون على رواتب جيدة ينفقون جزءاً كبيراً من دخلهم في ألمانيا. وبالإضافة إلى ذلك، يستثمر الجيش الأمريكي في مشاريع البناء، التي يستفيد منها الموردون والشركات المحلية.
وأشارت دراسة منذ أكثر من عشر سنوات إلى أن القواعد الأمريكية في ألمانيا تولد ناتجاً اقتصادياً يقدر بنحو 2.3 مليار دولار في راينلاند بالاتينات وحدها، وهي الولاية التي تتمركز فيها أغلبية القوات الأمريكية. وإذا أضفنا إلى ذلك العدد الإجمالي للقوات في ألمانيا، يصل المبلغ إلى نحو نحو 4 مليارات دولار. ورغم أن الدراسة لم تُحدث، فمن غير المرجح أن تكون الأرقام قد تغيرت بشكل كبير، حيث ظل عدد القوات المتمركزة هناك ثابتاً إلى حد كبير خلال الفترة الفاصلة.
ما الذي يتغير في المناطق؟
يمتد تأثير الجيش الأميركي إلى ما هو أبعد من الجوانب الاقتصادية. ففي العديد من المناطق، تطورت علاقات اجتماعية وثيقة على مدى عقود من الزمن، الأمر الذي كانت له أيضاً آثار ثقافية واجتماعية. ويشكل الجنود الأمريكيون وعائلاتهم جزءاً لا يتجزأ من العديد من المجتمعات. إذ يقومون بارتياد المطاعم ومراكز التسوق والفعاليات، ويشاركون في النوادي والحياة الاجتماعية. وعليه، فإن الانسحاب الكامل للقوات الأمريكية يعني ليس فقط تغييرات اقتصادية، بل أيضاً تغييرات اجتماعية وثقافية عميقة في العديد من المجتمعات.
لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت الولايات المتحدة ستسحب قواتها من ألمانيا بالفعل، وإلى أي مدى. لكن المؤكد هو أن مثل هذه الخطوة لن تكون ذات عواقب اقتصادية واجتماعية فحسب، بل قد تؤدي أيضاً إلى تغيير جذري في البنية الأمنية في أوروبا.