د. بشير عصمت
جريدة الحرة ـ بيروت
- “الناس صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخَلق.” – الإمام علي بن أبي طالب
- “لا معنى للحرية إن لم تشمل الجميع.” – نيلسون مانديلا
- “لا يُقاس حُبّ الوطن بكثرة الكلام عنه، بل بالقدرة على خدمته بكرامة وحق.” – جبران خليل جبران
- “لا معنى للثورة إن لم تكن ثورةً للكرامة.” – جان بول سارتر
إن اليسار الحقيقي لا يُقاس فقط بمواقفه الاجتماعية والاقتصادية، بل بمدى تجذّره في القيم الوطنية الصادقة، وإيمانه العميق بالمواطنة المتساوية كإطار جامع لكل أبناء الوطن دون تمييز. إن روح اليسار تتجدد كلما حمل مشروعه بعداً أخلاقياً يُعلي قيمة الإنسان فوق كل انتماء ضيق، ويُعيد وصل السياسة بمعناها النبيل؛ خدمة الصالح العام والعدالة. فالوطن ليس شعاراً أجوف، بل مسؤولية جماعية تُترجم في حماية كرامة الناس، وتكريس الحرية، ومقاومة كل أشكال الاستبداد والاستغلال. واليسار، حين يرتكز إلى هذه الروح الأخلاقية والروحية، يصبح قوة تجديد وضميراً حيّاً يعيد للأمل معناه، وللوطن معناه المشترك.
تأتي عودة جورج إبراهيم عبد الله إلى لبنان بعد أكثر من أربعة عقود في السجون الفرنسية كحدثٍ كثيف الدلالات في لحظةٍ إقليميةٍ هي الأكثر تعقيداً منذ عقود. لحظة يتصاعد فيها النفوذ الأميركي – الإسرائيلي سياسيّاً وأمنياً وإعلامياً، وتنكشف فيها هشاشة البُنى الوطنية في المشرق، فيما تتراجع القوى العلمانية واليسارية إلى هامشٍ صوتيٍّ خانق، لا تمتلك فيه لا المبادرة ولا الأدوات ولا الجمهور. في هذا السياق، يصبح السؤال مشروعاً: هل تكفي عودة رمز بحجم عبد الله لإعادة نفخ الروح في تيارٍ تقدّمي أنهكته الهزائم، أم أننا أمام رمزية جميلة تُستهلَك في الاستقبال والهتاف وتذوب سريعاً في ضجيج الاصطفافات الطائفية والمحورية؟
القول إن عبد الله «قاتل أطفال» ليس سوى تعبير فجّ عن ارتماءٍ أخير في أحضان يمينٍ يخلط عامداً بين عنف الدولة الاستعمارية وعنف المقاومة، بين ضحايا الاحتلال وشرعيّة مواجهته. إنه توصيف يحمل في طيّاته إدانةً أخلاقيةً مسبقة لكل أشكال المقاومة، ويعيد إنتاج سردية القوة المهيمنة التي تجرّم الضحية لأنه تجرّأ على حمل السلاح في وجه من يقتله يومياً. إن اختزال المسألة في توصيفاتٍ دعائية هو جزء من حربٍ رمزية كبرى، هدفها أن يُسلّم اليسار بأن قواعد اللعبة تُكتب في واشنطن وتل أبيب وباريس، وأن أي خروجٍ عليها هو «إرهاب» أو «همجيّة». هنا، تعود قيمة جورج عبد الله لا كشخص فقط، بل كذاكرةٍ مضادة تُذكّر بأن هناك أصلاً صراعاً، وأن «التطبيع مع المعايير الأخلاقية للهيمنة» هو الهزيمة الأولى.
لكن الرمزية وحدها لا تشكّل سياسة. واليسار، إن أراد أن يستفيد من هذه اللحظة النادرة، عليه أن يعترف بأنه غاب طويلاً عن الشارع، عن النقابات، عن الجامعات، وعن المبادرة الفكرية. لقد ترك الساحة لقوتين: محورٍ «مقاوم» صار يُنظر إليه – عن حق أو عن ظلم – باعتباره أداةَ نفوذ إقليمي لإيران أكثر منه مشروعَ تحرّر اجتماعي ووطني؛ وتيارٍ جهادي أثبت بعد امتحان السويداء، كما يبدو، أنه مستعد لتسليم جنوب سوريا إلى إسرائيل و ربما سلم، كما سلّم غيره مفاتيح القضية إلى تفاوضٍ بلا أفق، تماماً كما فعل أبو مازن في ظل سلطةٍ باتت شريكةً في إدارة الاحتلال أكثر ممّا هي قيادةٌ لتحرير الشعب. في هذا الفراغ، تحوّل اليسار من فاعلٍ تاريخي إلى معلق سياسي، ومن صاحب مشروع إلى صدى لغيره.
هنا، لا بد من الاعتراف بأن المساحة العربية لم تعد ساحةً واحدة، بل مساحات لكل منها همومها الخاصة، لكنها تتشارك إنسانياً وأخلاقياً في ضرورة التعاون، التضامن، والواقعية. لقد انتهى زمن (علوا الرايات) والشعارات الفارغة، وإذا لم ندرك أن العروبة هي ثقافة جامعة لا وهم سياسي جديد، فلن يكون هناك معنى لأي وعد أفلاطوني جديد. وإن لم ننجح في بناء شراكات تتجاوز القومية والدين واللون والعرق، وندين كل اضطهاد في أوطاننا وفي مجتمع متساوي المكوّنات، فلن يكون لايقاظ اليسار من سباته أي قيمة أو معنى.
الفرصة التي تتيحها عودة عبد الله ليست في تعويم الخطاب القديم كما هو، ولا في تكرار لغة «الممانعة» المنهكة، بل في صياغة رؤية يسارية جديدة تربط بين طبقات من الصراع: التحرّر الوطني في مواجهة الاستعمار الاستيطاني؛ العدالة الاجتماعية في مواجهة الأوليغارشيات الريعية والنيو ليبرالية العربية؛ والديمقراطية الجذرية في مواجهة السلطويات والطائفيات والزبائنيات. رؤية لا تساوم على فلسطين باعتبارها بوصلة أخلاقية وسياسية، لكنها في الوقت نفسه لا تقبل أن تتحوّل فلسطين ذريعةً لتبرير الاستبداد الداخلي أو التغاضي عن فسادٍ يُنهِك المجتمعات ويفرّغ المقاومة من مضمونها الشعبي، بوصلة تعرف بالسياسة تقاوم وتفاوض، رؤية تقطع مع «اليسار الأيقوني» الذي يكتفي بالرموز، لتبني يساراً تنظيمياً، شبكياً، نقابياً، قادراً على المراكمة اليومية، على إنتاج المعرفة كما على تنظيم الشارع، على الاشتباك القانوني كما على الصراع الثقافي.
هل تكفي عودة جورج عبد الله لإنعاش هذا التيار؟ طبعاً لا. لكنها نافذة تُعيد طرح السؤال الصحيح: لمن تُسلَّم راية المقاومة اليوم؟ السلاح بلا مشروع اجتماعي وسياسي وديمقراطي يتحوّل إلى قوةٍ معلّقة فوق مجتمعٍ منهوب، وإلى أداة تفاوض في أروقة الدول بدل أن يكون وسيلة تحرّر شعبية ونزيهة. واليسار، إن أراد أن يلتقط اللحظة، عليه أن يقدّم برنامجاً عملياً: إعادة بناء الحركة النقابية خارج وصاية الأحزاب الطائفية؛ تأسيس منصّات تعبئة فكرية وشعبية تربط النضال من أجل الخبز والطاقة والتعليم العام بالنضال ضد الاحتلال والهيمنة؛ تطوير خطاب فلسطيني يصوغه الفلسطينيون لا أحد عنهم-عربي مشترك يتجاوز الثنائية العقيمة بين «محور» و«تطبيع»، ويستعيد مركزية المجتمع – لا الأنظمة – في مشروع التحرّر. عليه أيضاً أن يعترف بأن أزمة اليسار ليست فقط في انقساماته، بل في تخلف أدواته التنظيمية عن روح العصر: لا حزباً جماهيرياً كلاسيكياً يكفي، ولا «شبكة» بلا بنية تكفي. المطلوب «هجين تنظيمي» مرن، ديمقراطي داخلياً، متجذّر محلياً، ومتصلاً عابراً للحدود.
إن تراجع التيار المقرّب من إيران، كما يبدو، وافتضاح استغلالية طهران في أكثر من ساحة، لا يعني تلقائياً صعود يسارٍ جديد. فالفراغ لا يُملأ تلقائياً. ومن دون هندسةٍ سياسية واضحة، سيُملأ الفراغ بيمينٍ أكثر فجاجة، أو بسلطةٍ مالية – أمنية تُحكم الإغلاق على ما تبقّى من المجال العام. وهنا تصبح غزة معياراً أخلاقياً كوكبياً بالفعل: فمن لا يرى في صمودها الأسطوري امتحاناً لإنسانية البشر، سيجد نفسه – شاء أم أبى – وقد أدار ظهره لروح كل القضايا العادلة. لقد أثبت بعض العرب، ومعهم الصهاينة طبعاً، طلاقاً مع الإنسانية: حين يصبح الدفاع عن حياة الأطفال ترفاً، وحين يصبح الحق في التحرّر تهمة، وحين تُكافأ الضحية بالمشانق ويُكافأ الجلاد بالتحالفات.
اليسار الذي نحتاجه اليوم لا يعتذر عن مقاومة الاحتلال، ولا يساوم على خبز الفقراء، ولا يخدع نفسه بأوهام «الحياد الأخلاقي» في عالمٍ يُعاد تشكيله بالقوة. يسارٌ يعرف أن المعركة الرمزية ليست هامشية: اللغة، السردية، المفاهيم، كلها ساحات قتال. ويعرف أيضاً أن البطولة الفردية – مهما بلغت أهميتها – لا تعوّض غياب البنية. من هنا، قد يكون دور جورج عبد الله اليوم أن يتحوّل من «رمزٍ يُحتفى به» إلى «مُحفِّزٍ يسائلنا»: ماذا سنفعل بهذه الفرصة؟ هل سنحوّل عودته إلى عقد تأسيسي جديد لتيار تقدّمي عربي – لبناني يشتبك بذكاء مع الواقع، ويرفض أن يُختَزَل في محور، أو أن يُبتلع في دولة فاشلة، أو أن يُحاصر في أكاديميةٍ عاجزة؟
ولعلّ الخلاصة الأهم أن النهوض اليساري لن يقوم إلا إذا بُني على تحالف إنساني عابر للهويات الضيقة، يعطي الأولوية للوطنية والمواطنة كحاضنة جامعة، ويمنح القيم الأخلاقية والروحية موقعها الأصيل في سلم أولوياته. يسارٌ يرى في العدالة والكرامة قيماً مشتركة وليست شعارات موسمية. فاليسار، إن لم يعد إلى جذوره الأخلاقية كصوت للإنسان – كلّ الإنسان – سيفقد كل شرعية، مهما كثرت رموزه وأيقوناته.


