د. جاد طعمه
جريدة الحرة ـ بيروت
وسط صمت الصحراء الصارخ أكثر من عواصفها، تقف قبيلة عربية وحيدة في غزة. أربعة عشر عامًا من الحصار فصلت بينها وبين سائر القبائل، ثم جاء الطوفان ليميّز الخبيث من الطيّب. ليست هذه القبيلة مجرّد حجارة منحوتة على جبين الزمن الرديء، بل هي قلب نابض في جسد أمة غائبة عن الوعي، مقطّعة الأوصال، تعاني من عقد النقص ومن أزمة تعريف الهوية، ولا تفخر إلا بسيف المستعمِر الجديد الذي يمزّق الأوطان ويُطوّب الخيانة كرامةً مستعارة.
تستحضر الذاكرة فكرة… مع أن التفكّر بات من المحرّمات، إذ فيه خروجٌ عن طاعة “أولي الأمر”. التفكير أصبح سكينًا حادًّا وباردًا يستقرّ عميقًا في خاصرة الروح. أما الفكرة، فهي استذكارٌ لمعركة نزل فيها الإلهام الرباني على قلب النبي الكريم، بأن النصر لا يتحقق إلا حينما تتآلف القلوب التي كانت كالرمال المتناثرة، فتصبح جدارًا واحدًا يواجه العدو “كأنهم بنيان مرصوص”. فالوحدة كرامة إلهية لا يمنحها الله إلا للمستحقين؛ ولو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما ألفت بين قلوبهم… أما الكرامة، فلا تُنال إلا بالتقوى والطاعة والوقوف عند حدود الله. كأنّ الخيانة والفرقة باتت أصلًا عربيًا يسري في الدم وينخر العظام.
حال العرب اليوم قبائل وشعوب لا ليتعارفوا، بل ليتناحروا. مجرّد أحلام تائهة في سوق الغفلة، يلهثون خلف السراب، يظنّون أنفسهم الأذكى وهم يتصدّرون لوائح الغباء. غسلوا أدمغتهم بأفكار المستعمر، ونسوا أن العذاب لا ينتظر إلا المتشرذمين، ولا يُسلَّط إلا على الأمم الممزقة والفرق الضالّة. من يهمل التنبيه الرباني كمن يعبث بحدود الله، وهي من جوهر العقيدة لا من الهوامش.
قبيلة غزة تقف وحدها، كمئذنة شامخة في أرض تتهاوى، كجذع نخلة وحيدة في صحراء قاحلة. كل من تجرّأ على إسنادها سُحق ومُزّق شرّ ممزق. إنها قبيلة ناصرت الحق، وانتصرت له، فثبّت الله أقدامها على صخر اليقين، ورزقها صبرًا من معدن السماء. أُبتلي أهلها بالجوع والخوف، وبنقص من الأموال والأنفس والثمرات، لكنهم ما وهنوا وما استكانوا.
أرض القبيلة صارت رقعة محروقة، مزّقتها صواريخ الحقد وأدوات الموت المرسلة من دولٍ تتشدّق بالسلام. أما “المجتمع الدولي”، فطالما تستّر خلف رداء الإنسانية، حتى أسقط الطوفان أوراق التوت وكشف القبح عاريًا. وقف الكوكب مذهولًا أمام مرآة الحقيقة، فبانت صورة الأنظمة كلّها بلا رتوش: عورةٌ سياسية وأخلاقية لا تُستر.
في عالم يسْبح في وحل النفاق، حيث تتسابق الضباع على السلاح، كانت قبيلة غزة تُحاصر بالأحقاد والجوع. أطفالها تنتفخ بطونهم من فرط الخواء، ونساؤها صرن جداول دموع مالحة على وجوه غبراء، وشيوخها يتساقطون كأوراق الخريف اليابسة، يجرّون أواني الرجاء خلف لقمة تُبقيهم على قيد الحياة.
لكن الأشد مرارة أن هناك منفذًا لا على البحر، بل على حدود دولة عربية. دولة غرقت في الديون، وأُغرِقت معها قراراتها السيادية. دولة قيل لها: أفسدي العقول بالأفلام والألحان، وسوّقي الانحلال على أنه حضارة. دولة لم تساند ولم تحتجّ، بل دفنت رأسها في رمال الخنوع، وأصمّت أذنيها عن أنين الأطفال، وأغمضت عينيها عن دموع النساء، وتجاهلت سقوط الشيوخ. فهل من عجب؟ أليس بأس العرب على بعضهم أشدّ من بأس عدوهم؟ أتحسبهم أمة واحدة وقلوبهم شتى، كحصىً متفرقٍ في وادٍ سحيق؟
يا قبيلة غزة، يا أرض الرباط التي ما زالت ثابتة على الثرى الملتهب… يا من بقيتم كالنجم الثاقب في ليلٍ عربيٍّ حالك… لسنا في زمن المعتصم، فلا تنادوا أحدًا، فالسبات عميق، والقلوب غليظة. توكّلوا على الله وحده، فهو الناصر، وهو الحافظ، وهو الكافي. لا تراهنوا على قومٍ خانوا دينهم، وتمردوا على الحق، وتنكّروا للنخوة والمروءة، وبدّلوا دينهم طاعةً لفراعنة العصر وأسياد المال والسلاح.
إخوانكم من الأعراب نسوا الله، فطُبع على قلوبهم. صارت قلوبهم أقسى من الحجارة، فبعض الحجارة تتفجّر منها الحياة، أما قلوبهم فجُمدت حتى الموت. يبتكر هذا العالم طرقًا مذهلة لتشويه الصورة: فيُقدّم المتدين الملتزم في ثوب المتوحش الدموي، ويُلمّع الخانع الراكع في حضرة الغرب على أنه “العربي المتحضّر”، المُتدثّر بمشروع “إبراهيمي” لا علاقة له بإبراهيم، الباحث عن صلح مهين يرضي وليّ أمره ولو كان سفّاحًا يبيع التراب وكرامة الأمة بسعر قصيدة مدفوعة الأجر.
إنه زمن الفتن يا أهل غزة… فتن كقطع الليل تتنقّل بينكم، وبين جنوب لبنان، والسويداء، وبلاد الشام التي أحرقوا فيها الياسمين وزرعوا فيها الأشواك. لكن الأشواك، كما علّمنا التاريخ، قد تنبت ورودًا.
إنها إرهاصات يوم عظيم… والناس في غفلة يلعبون.
فيا أبناء غزة، اثبتوا واغفروا لإخوانكم، فهم لا يدرون ماذا يفعلون. أنتم الظل الأخير لعروبةٍ مجيدة، ودينٍ نقي، ولو على أرضٍ محروقة تحت سماءٍ صامتة. احفظوا كلامكم، فلكم يومٌ ستُستدعون فيه إلى محكمة العدل الإلهية… وهناك، لا يُظلَم أحدٌ مثقال ذرة.


