الحرة بيروت ـ بقلم: فؤاد سمعان فريجي، كاتب وناقد سياسي
مرّ العاشر من نيسان/أبريل 1931، ذكرى رحيل نابغة لبنان جبران خليل جبران، من دون أن يرفّ للجمهورية طرف، كأنها غارقة حتى القاع في يومياتها السياسية، والتحديات الطارئة التي تداهم مصيرها، والاستحقاقات الإقليمية التي لا تنفك تباغتها. ذكرى بهذا الثقل الإبداعي والفكري، عَبَرت كأنها تفصيل، لا لشيء سوى أن الوطن اعتاد ألّا يلتفت إلى مبدعيه، وكأنّه لا يعلم أن هذا التاريخ هو يوم غياب أحد أعظم أبنائه الذين رفعوا اسم لبنان في العالم.
لبنان، الذي يبدو وكأنه محكومٌ عليه بالانغماس في صخب الانتخابات البلدية، وتفاهات السجالات السياسية، واستعادة ذكرى حرب 13 نيسان 1975، يتناساه أن ثمة محطة تاريخية مضيئة مرت، احتفل بها العالم، بينما وطن العباقرة والمبدعين لم يتذكّر، لا رسميّاً ولا شعبياً، أن من وقفوا على باب التاريخ وكتبوا المجد بأقلامهم، هم من لبنان.
على مواقع التواصل الاجتماعي، تتصدّر المشهد قشور الكلام، وسطحيات الحضور، ومرض حب الظهور والذات، فيما تتوارى القيم والفكر، ويعلو صوت التفاهة. منابر التواصل تغصّ بمتسلّقي المجتمع، لا بمبدعيه.
مئات النوادي والجمعيات المنتشرة في لبنان، ومعها المنتديات، والتي تحمل عناوين ثقافية واجتماعية رنانة، لم تكلّف نفسها عناء التوقّف عند هذا اليوم. لا في المدارس، ولا في الجامعات، ولا حتى في ذكر عابر لمن سمّى وطنهم ذات زمن بـ”وطن النجوم”.
من عليائه، وبعد 94 عاماً، يسأل جبران نفسه: “هل تغيّر لبنانكم؟”. فنجيبه، بكل محبة، وبأسى لا يخفى: “أبداً يا جبران، لا بل نحن اليوم في قاع العالم السفلي، غارقون في الشكليات، تائهون بين شعارات وطنية مستهلكة ومظاهر اجتماعية فارغة”.
لبنان ما زال كما تركته. لم تتغير فاصلة في نصّ تاريخه. حكومات تأتي وأخرى ترحل، لكن العقدة السياسية ذاتها لا تزال تستعصي على الحل. بل ازدادت تعقيداً حتى باتت بحاجة إلى ساحر يفكّك خيوطها، قبل أن تتحوّل إلى حبل مشنقة يلفّ عنق الوطن.
مشكلتنا، كما وصفتها أنت، “مشكلة دولية تتقاذفها الليالي”، أما نحن فأتعبنا ظلام الفجر، بفعل طبقة سياسية مريضة في العقل والنفس، احترفت فن التبعية والاستزلام والنهب.
المبدعون، يا جبران، هاجروا. غادروا لبنان وحطّوا في دول شتى، يعرّفون عن أنفسهم بالانتماء إلى بلدك، إلى لبنان. وعندما يُسألون، يجيبون دون تردد: “نحن من بلد جبران”. فينحني لهم العالم خجلاً وإعجاباً.
مرّت الذكرى، ولبناننا لا يزال يزداد اختناقاً بمعضلاته. الفاسد أصبح مكان الشريف، والصغير مكان الكبير، والتافه على المنابر، وسارق المال العام صار مرشداً اجتماعياً، والمجرم قيّماً على أرواح الناس.
لست وحدك، يا جبران، من لم يذكرك أبناء وطنك. هناك كوكبة من العباقرة، إخوة لك في الإبداع والفكر والعالمية، غُيّبوا أيضاً عن يوميات مجتمع يتلهّى بالعصبيات والطوائف والأديان والحروب.
في ذكراك، نرسل ألف سلام إلى أرواح أساتذة الفكر والعبقرية: إلى ميخائيل نعيمة، نسيب عريضة، رشيد أيوب، إيليا أبو ماضي، عبد المسيح حداد، وندرة حداد.
اعذرهم، أيها العابق بتراب القداسة عند سفوح قنوبين، وقرب بلاد البلمند وأنفاس الأرز المقدّس، والمقدّمين… لقد أُعميت بصيرتهم بهرَجات هذا العالم، وأقفلت الأيام أدمغتهم بالشمع الأحمر.
أيها الحبيب جبران، “أنت اثنان: المتيقّظ في الظلمة، والغافل في النور”.
سلام لروحك التي لا تزال حيّة بيننا، افتح عينيك يوماً، لترى مملكتك المنتصبة، بتماثيلك، ومؤلفاتك، وإرثك الذي لا يموت.
تحية إلى أمي.