الخميس, نوفمبر 6, 2025
23.4 C
Beirut

الأكثر قراءة

إصدارات أسبوعية

فيروز تودّع نوتة الحياة الأخيرة لزياد: حين تنكسر الأمومة بصمت النبوغ!

محمد عبد اللطيف

 

جريدة الحرة ـ بيروت

في الزاوية القصية من بيتٍ حالمٍ بالضوء والعزلة، لا تزال فيروز تقاوم الزمن، لا بصوتها فقط، بل بدورها الأبدي كأم. هي التي أنشدت للحب، والحرب، والجمال، تجد نفسها اليوم أمام لحظة عزاء داخلي، لا تصرخ فيها ولا تبوح، بل تغلّفها بصمتٍ كان دومًا رداءها الأنيق.

رحل زياد الرحباني. لم يكن مجرد فنان مجدد، ولا فقط ابنًا لأسطورة تُدعى فيروز، بل كان امتدادًا نادرًا لمشروع فنيّ حمل وجدان أمة، وواجه وطنًا يتهاوى، بموسيقى ناقدة وكلماتٍ أقرب إلى صفعة من فرط واقعيتها. فغيابه اليوم ليس فقدًا فرديًا، بل خفوتٌ لصوت الوعي، وانطفاءٌ لحالة فنية كانت مرآة ساخرة لوطن مهترئ.

في حياة فيروز، تقاطعت أدوار الأمومة مع القدر بأشكالها كلها. فهي التي تحتضن اليوم ابنًا تجاوز الستين، من ذوي الاحتياجات الخاصة، ولا تزال ترعاه بعينها وقلبها، تمامًا كما رعت مجدًا فنيًا مع زوجها الراحل عاصي، واحتضنت تجربة زياد التي خرجت من بيت الرحباني لتخترق العقل العربي بأسئلة موجعة.

ورغم بلوغها التسعين، لا تزال السيدة فيروز تؤدي أقدس الأدوار: الأمومة. أمٌّ تحتضن ابنًا بحاجتها، وتودّع ابنًا آخر شكّل ركناً من روحها الفنية، وحاملًا لعصيانها المبطّن على الواقع. وكأن الحياة أرادت أن تختبر قلبها مراتٍ متتالية، دون أن تسمح لها بالتنفس.

لم يكن زياد فنانًا عاديًا، بل كان الوعي الصادم الذي اقتحم الطرب من بابه الخلفي. أدخل الوطن إلى الغناء، والاحتجاج إلى الموسيقى. قال ما لا يُقال، وواجه ما لا يُواجه. كتب للبسطاء، وللمقهورين، وللشوارع التي لا تملك ميكروفونًا. عرّى النظام، الطائفية، النفاق المجتمعي، وكل الأصنام المقدسة… ولم يعتذر.

كان مشاكسًا حتى في صمته. ساخرًا حتى من قناعاته. لم يهادن، ولم يسترضِ أحدًا. لكنه، في العمق، ظل طفلًا يبحث عن وطنٍ لا يكذب، وواقعٍ لا يهين كرامة الفقراء.

واليوم، في لحظة غيابه، لا تسأل بيروت عن فنّه فقط، بل عن الضمير الذي غاب. وحدها فيروز تجيبه من شرفتها الصامتة، حيث الحزن لا يُقال، بل يُرتّل. حيث الكلمات تصير أنينًا داخليًا، لا يُبكى عليه أمام الكاميرات، بل يُدفن في القلب.

لبنان، الذي كان يومًا مسرحًا لحلم الرحابنة، صار اليوم مسرحًا لخيبات متكررة. ومع رحيل زياد، نخسر صوتًا كان يفضح الألم بالمزاح، ويعرّي الخراب بنكتة، ويوقظنا من غيبوبة “الانتظار المزمن”.

في بيتٍ لم يغادره النغم، تظلّ فيروز وحدها، تعاين انكسار الأمومة بين ابنٍ باقٍ في عجزه، وابنٍ غادر في قمّة وعيه. وبين الذاكرة والحلم، يبقى صدى زياد يتردّد في زوايا البيت، وفي وجدان محبيه، وفي سؤال لم يجب عنه أحد: “بالنسبة لبكرا شو؟”

سؤال زياد، سيبقى يتردّد. وحنجرة فيروز، ستبقى الجواب الوحيد الصادق، ولو بصمتها…

https://hura7.com/?p=62693

الأكثر قراءة