المحامي د. جاد طعمه
جريدة الحرة ـ بيروت
أيعقل أن تبقى العدالة في لبنان حكراً على الأسماء ذاتها، التي تتناوب باستمرار على المواقع والمناصب الحساسة، سواء تلك التي تهم الناس أو التي تشغل السياسيين، وبالتحديد في مختلف المحافظات؟ وهل يجوز إلى هذا الحد التضحية بهيبة القضاء في أروقة المحسوبيات، التي لا تخلو من الأحقاد؟
تلك الهيبة، التي رُفع السيف لأجلها في وجه الصحافة وحرية الرأي والتعبير، باتت اليوم ضحية التفاهمات الظرفية، وقد شكّلت غطاءً لانبعاث “الدخان الأبيض” من قاعات الاجتماع القضائي، عقب الإيقاع المحترف بشخصية كانت تُعتبر عقبة أو “حائط صد”، في تنسيق بالغ الدقة والخطورة.
قد يكون المحرِّض قد نجح في تنفيذ المهمة التي أُوكلت إليه، لكنه اليوم أمام مواجهة مباشرة مع شخصيات لم يُحسن تقدير حجمها وتأثيرها، إلا إذا كان “المحرّض الأكبر” قد تعمّد إحراق تلك الشخصية المعارِضة، وكلف أحدهم بمهمة استفزازها وتحريضها، في خطة لضرب عصفورين بحجر واحد. وهذا احتمال وارد، بل راجح، خاصة إذا علمنا أن كل ذلك يحصل داخل الجسم القضائي نفسه، الذي خضنا طويلاً معاركَ من أجل استقلاليته، من دون أن ننتبه إلى خطورة تغلغل الشخصيات النرجسية داخله.
أما ما يُتداول من تسريبات بشأن التشكيلات القضائية، حتى الساعة، فهو مقلق للغاية ولا يوحي بأن الأمور تسير على ما يُرام. إذ إن استقلالية السلطة القضائية لا يمكن أن تُخنق خلف الجدران، حيث تجتمع نزعات التشفي الشخصي والرغبة في تصفية الكفاءات، وخصوصًا الكفاءات الشابة، التي يبدو أن لا أحد يرفع الصوت دفاعاً عنها، ولا من ينبّه إلى حجم الغبن اللاحق بها.
نخص بالذكر هنا قضاة دورتي 2019 و2021، الذين يتعرضون لإجحاف كبير، خاصة عند مقارنتهم بقضاة دورة 2022، الذين، وإن كانوا يتمتعون بكفاءات مشهودة، إلا أنهم ما زالوا في طور اكتساب الخبرة، وهو أمر لا تعكسه درجاتهم المرتفعة.
الطامة الكبرى أن الظلم يطال، بشكل خاص، نخبة الأوائل في دورتي 2019 و2021، وسط همسات في قصر العدل تفيد بأن “ترويكا قضائية” تتصرف بأسلوب شبيه بترويكا السلطة السياسية في التسعينيات، وقد أقدمت على إصدار قرارات مبرمة، ووزعت المناصب والمهام استناداً إلى الأهواء الشخصية والولاءات، لا إلى معايير الكفاءة والاستحقاق.
وهذه كارثة موصوفة لا يجوز تمريرها، خاصة في أولى التشكيلات القضائية لهذا العهد، الذي نريده عهداً إصلاحياً بامتياز، تمامًا كما وُعِدنا به… إلا إذا كان ما يجري أيضاً جزءاً من تفاصيل خفية تُبنى على أوراق وتوصيات خارجية، وربما أميركية.
فوفقاً لأي معيار يُنقَل طليعة الدورة إلى محافظة عكار، فيما يتقدَّم من كان ترتيبه العاشر إلى محافظة بيروت، إذا كانت الشخصيتان معاً تطمحان إلى التواجد في المحافظة الأخيرة!
أي عدلٍ، وأي هيبة، يمكن أن تبرّر نفي باقةٍ من الأوائل إلى محافظة الجنوب، رغم توفر الرغبة لديهم بالتواجد في بيروت أو جبل لبنان، فيما يُقرَّب أصحاب الدرجات الأدنى إلى مراكز تُشكّل ثقلاً سياسياً وإدارياً؟
إن صحت التسريبات التي نُشرت في مواقع باتت مصادرها معروفة للقاصي والداني، فإن ذلك يعني أن الغاية منها هي امتصاص الصدمة على دفعات، لا دفعة واحدة. كما يُشير الأمر إلى تواطؤٍ صارخ، وابتعادٍ تام عن مبادئ الحوكمة الرشيدة في قطاع العدالة.
وقد يكون ذلك أيضاً مؤشّراً على نيةٍ مكشوفة للسيطرة على مفاصل القرار في الدولة اللبنانية، من خلال زرع “أصحاب الدرجات الأقل”، باعتبارهم أقلّ خبرةً وأكثر حاجةً للتوجيه، وهو ما يسهّل على من جاء بهم بسط نفوذه عليهم!
هذا الأداء ليس غريباً على بعض الشخصيات التي تتبنّى ذهنية “الترويكا”، وهي وقائع لا يمكن تصنيفها كتفاصيل عابرة تمر مرور الكرام. بل إن فضح النوايا قبل صدور مرسوم التشكيلات القضائية فيه منفعة كبيرة لمرفق العدالة، ويكون من حرّض على التسريب قد “طبخ السم فأكله”، لأن سحره انقلب عليه.
الواجب على المخلصين لهذا المرفق الحيوي، ألّا يسمحوا بوقوع زلزالٍ متعمَّد يهزّ أركان العدالة ويهدد بنيانها. فالتدخل المطلوب اليوم يشبه تماماً ما حصل حين جرى الترويج لأن قصر عدل بيروت قائمٌ على بحيرة مياه، وأنه بحاجة إلى ترميم كلّف المالية العامة ملايين الدولارات.
يسهب المتابعون في تشريح “صنيع الترويكا السيّئ للغاية”، متحدثين عن عقلياتٍ ذات فكرٍ ظلاميّ وظالم. فأحد أعضاء الترويكا يُعدّ خبيراً محترفاً في “فتح الملفات الحارقة” في اللحظات الحاسمة، تحت شعارات إصلاحية، يكون هدفها الحقيقي استبعاد من لا يُراد له الاقتراب أو الارتقاء.
فلا أخبث من إطفاء نيران الأحقاد بوابلٍ من “غطاء النيران القانوني”، لإضفاء شرعية شكلية على تصرّفات صبيانية، طالما نُبّهنا إلى أنها لا تخلو من نزعة نرجسية سافرة.
إنّ الإصرار على تدوير الأسماء المحظية نفسها في المواقع التي تُصنَّف كمكرمات قضائية، يؤكد أن عجلات القضاء في لبنان لا تزال تدور في حلقة مفرغة.
والسؤال المحق الذي لا بدّ من طرحه: ماذا عن الكفاءات الكثيرة، المغمورة والمنفية، التي أثبتت تميزها في الأداء والممارسة القضائية؟ هل سيبقى مصير هذه الكفاءات النفي المُهين، وسط رهانٍ على أن صمتها سيكون أبدياً وسرمدياً؟
ألا يدرك الذين جلسوا وتناقشوا وتبادلوا الأحاديث بشأن الملف القضائي المتعلق بالفساد، والذي كان في عهدة فرع المعلومات قبل أن يُطمر بفعل الضغوط السياسية، أن طمس الحقيقة لن يستمر إلى الأبد؟
لقد حان الوقت لصدح الأصوات بقول الحق، ومن الواجب على “مجلس القضاء الأعلى” أن يخرج من محفلِه وصومعتِه، بعد إنجازه التشكيلات القضائية وإرسالها إلى معالي وزير العدل، ليُفصح بشجاعة وشفافية أمام الشعب اللبناني عن معايير الحوكمة التي اعتمدها في إدارة مرفق العدالة، وتحديداً في هذه التشكيلات. عليه أيضاً أن يتسع صدره للملاحظات، وألّا يدفع باتجاه حرق المراحل تحت ذريعة ضرورة إصدار مرسوم التشكيلات، الذي طال انتظاره.
فهذه التشكيلات قد لا تتوافر لها في المستقبل ظروف مماثلة لإصدار مرسومها بسلاسة، كما أن الرغبة السياسية أو القضائية في إقرارها لاحقاً قد لا تكون مضمونة. ومن حق الناس أن يعرفوا المعايير التي أُتي بها بأشخاص ستصدر أحكامها باسم الشعب اللبناني. والمطلوب ببساطة هو توضيح القواعد العامة المُعتمدة، دون الانزلاق إلى لعبة التسميات والطوائف، وفي حال وجود استثناءات على القاعدة العامة، فبيان أسبابها وعددها واجب لا مفر منه.
إنّ الفضائح المتكررة في القرارات الصادرة عن الجسم القضائي، لا سيما في شقّه الجزائي، تتناقض كلياً مع السعي المعلن والحرص المفترض على تأمين هيبة القضاء. فكيف يُبنى وطنٌ وهيبةٌ على أسس من الظلم والتحيّز؟ وكيف نطمئن لاستقرار الأحكام، حين يوضع بعض القضاة في مراكز لا تتناسب مع درجاتهم أو كفاءاتهم، سواء في التشكيلات الحالية أو السابقة؟
لسنا بحاجة إلى كثير من التبريرات الواهية عن “انتقامات” بسبب رسوب الأبناء والبنات، ولا إلى استحضار أحقاد تاريخية بين الزملاء داخل “معبد السلطة” الذي يُفترض به أن يرقى إلى مرتبة القداسة. فمقام العدالة يفرض احترامه، لكن على “رهبان المعبد” أن يتحلّوا بالحكمة والسيرة الحسنة التي تُقربهم من تلك القداسة، وتنزّههم عن أفعال عامة الناس من أهل الخطايا. فالشعارات، بل حتى الأوهام، لا تُخفي الحقيقة، لا سيّما إذا كان هناك خللٌ منهجيٌ في المعايير.
اليوم، وفي هذه الساعة، وقبل صدور الإعلام الرسمي وقبل أن تُكتب مقالات التشريح، ثمة حاجة ماسة للاعتراف بالخطأ، لأنه فضيلة. وعدم الإصرار عليه فضيلة أعظم. فإن عجزت الآلية الداخلية عن تصحيح المسار، فليكن العلاج من أعلى، ولو كلّف ذلك مساساً مؤلماً بمبدأ الاستقلالية. إذ إن الاستقلالية التي تولّد الظلم، وتُبعدنا عن جوهر العدالة، هي استقلالية فاسدة، يُمارسها مفسدون على الأرض، يتوهمون أنهم عناوين للإصلاح.
على أبواب الذكرى الخامسة للإخفاق في تحقيق العدالة في ملف جريمة انفجار مرفأ بيروت، وبعد إقرار قانون يحاكي طموحات المصارف اللبنانية، تتدفّق التساؤلات المشروعة كالسيل الجارف، فيما الجراح تنزف في جسد القضاء.
كلّ ذلك يتطلب إجابة واحدة: الإعلان الواضح والصريح عن المعايير المُعتمدة في التشكيلات القضائية.
دون ذلك، نحن أمام تسلّطٍ وغطرسةٍ متستّرة خلف شعار الاستقلالية، التي ستكون في هذه الحال قد فُرغت من مضمونها، وانحرفت عن غاياتها.
هذا نداء استغاثة في اللحظات الأخيرة، موجّه إلى من يعنيه الأمر، بألوانه الساطعة للجميع. فالمطلوب ألّا يُمسّ أو يُلحَق الظلم بالكفاءات القضائية المشهود لها، فـ”أهل مكة أدرى بشعابها”، وهم الأقدر على أن يجعلوا من مرفق العدالة حامياً لها، لا حارساً للفاسدين. فالقضاة هم ملح العدالة، وإن فسد الملح، فبماذا يُملّح؟
أستاذ مادة سوسيولوجيا واقتصاديات الفساد في كلية الحقوق / الفرع الفرنسي – الجامعة اللبنانية


