د. جاد طعمه
جريدة الحرة ـ بيروت
ليس أصعب من أن نضحك من أوجاعنا…
نصفّق لـ”لطشة” أو “لطشات” تمرّ بذكاء في فصول مسرحية، ثم نخرج من باب المسرح كأنّنا أدّينا قسطنا إلى العُلى.
زياد لم يؤلّف ويعرض علينا “سهرية” لنقتات على الذكرى،
بل حفر في عقولنا أخاديد السؤال: “بالنسبة لبُكرا شو؟”
هذا العنوان وحده فيه تحدٍّ لكلٍّ منّا، ويجلد صمتنا كالسِّكين، ويُنبت في حقول الوعي شجرة الحقيقة.
أتعلمون الفرق بين مسرحية زياد وواقعنا الحالي؟
“فيلمنا الأميركي الطويل” ليس له نهاية، فـ”البوسطة” نفسها تقودنا إلى الهاوية بطاقم يتغيّر، لكنّه يحافظ على السلوك المطواع ذاته، عبر “وزراء بلاط السلاطين”.
نعم… ثمّة من باعوا فكرهم الاشتراكي في مزاد النخّاسة الجديد،
وصاروا – كالطيور المهاجرة في غير أوانها -يرفرفون بأجنحة الخيانة التي نبتت على ظهورهم فجأة، في قصور الليبرالية المتوحّشة!
فلنُراقبهم جماعيًّا…
وراء كلّ نكبة اجتماعية في لبنان يقف خائن للمبادئ والقضية.
فالاشتراكيون القدامى أجروا عمليات “تجميل” بنظرهم (تشويه بنظرنا) لقطع صلتهم بجذورهم، حتى بات أصدقاؤهم القدامى لا يعرفون ملامحهم!
هؤلاء الذين نزحوا من ميادين النضال هم الأقدر على هدم نضالات سواهم… لأنهم يحملون “داتا” الأوجاع التي كانوا يشعرون بها في يوم من الأيام، في جيوبهم الممتلئة اليوم بالعملة الخضراء.
وهذه “الداتا” يقلبونها سُمًّا لرفاقهم، في أطباق من إعداد أولياء نعمتهم الجدد. فالفقير في جيبه مجرّد “نتفة مال”، لكن معه من الكرامة الكثير.
زياد الذي غنّى: “عايشة وحدها بلاك” لم يكن يعيش في عالم الأحلام، بل في قلب الحياة الواقعية.
وعرف أنّ الحبيبة لم تترك حبيبها الفقير لأنه مشروع فاشل، بل لأن “الجوع كافر”، ولأنها تريد الطريق السريع، ولو لم تكن ابنة “مربّى الدلال” التي تغلق أنفها عن رائحة البصل!
هذه ليست أحقادًا طبقية… بل شهادة: ابن الغني يرث فسادًا مذهّبًا، أما ابن الفقير، فيرث عزًّا كالصخر واعتزازًا بالنفس وبالإنجازات المحقّقة.
فلا تلوموا الفقير إن دندن أغنية “بلا ولا شي”، فهي علاج الروح بالنسبة له؛
فهو لا يملك إلا بعض الأغاني، وإيمانًا بأن “رزق الغد على الله”.
لذلك نُحب زياد… ونتأثّر به… لأنه حاكى أوجاعنا.
نحن من وصلنا إلى حيث نحن، ليس عبر الأوتوسترادات المزفّتة والناعمة،
بل عبر الطرق الوعرة التي تركت آثارها في أقدامنا،
ومن خلال حقول الفول والبصل العتيقة!
في الطريق تعلّمنا أنّ أهميّة “الوصول الحقيقي” هي في أن تصل رغم المعوّقات، وعلى الرغم من التعب والسهر… فبعد الوصول لن يسألك أحد: كيف وصلت؟
قد تصل سيرًا على الأقدام، أو بسيارة “رينو 12” أو “فيات 2000″، ستصل وأنت تحمل في جيوبك روائح من أريج الأرض التي مشيت عليها.
ومن يصل عبر الأوتوستراد السريع، في “فيراري” أو “لامبو”، فوصوله فارغ لا عناء فيه، ووصوله باهت لأنه تحصيل حاصل.
“المصاري” التي غنّى لها زياد باستهزاء، كان يدرك يقينًا أنّها “ما قشطت لحالها” من السماء، وزياد جعل منها وسيلة للعيش بكرامة، لا غاية بحدّ ذاتها. وهذا أكبر مشروع فيه إدراك لمكافحة الفساد المنتشر والمستشري.
مع زياد، في ريعان شبابنا، تمّ شحن هممنا بـ”الكثير” من الوطنية والإنسانية،
التي ملأت نفوسنا أنوارًا ومحبةً للآخر المختلف.
وحدهم الفقراء يعلمون كيف يقسمون رغيف الخبز، ليتخلّوا عن غريزة الشبع التام من أجل إسكات جوع فقير إلى جانبهم، بطنه خاوية.
سيبقى عود زياد رنّانًا،
لحنًا قد لا يُسمَع في مهرجانات الساكسفون الذهبي،
بل في زوايا حاراتنا المقاومة…
هناك، حيث تُروى حكايات غلاء “الخسّة”،
وحيث يُطرح السؤال كالقنبلة: “بالنسبة لبُكرا شو؟”
هذا زمن فيه استمرارية “للحالة التعبانة يا ليلى”،
وسنرفض، وفاءً لزياد، أن نخرج من مسرح الوطن…
وسنُقيم “سهرية” تلو “سهرية”، بانتظار ثورة الوعي العام.
حتى لو عشنا وحدنا بلاك، يا زياد، في زمن قمع الحريات والحصار،
فالمهم ألّا نصبح أشخاصًا تستهويهم السيارات الفارهة، ويحملون جثّة ضمير.


