الحرة بيروت
إندبندنت ـ أربعة أعوام مرّت على اغتيال لقمان سليم، المفكر الحر، صاحب الصوت الجريء الذي لم يخضع للترهيب، فكان مصيره أن يُغتال بدم بارد في منطقة تحت السيطرة المطلقة لـ”حزب الله”. لم تكن جريمة عادية، بل رسالة دموية تؤكد أن من يتجرأ على قول الحقيقة سيُقتل.
واليوم، تأتي “المنظومة” الحاكمة لتتستر على الجريمة مرة أخرى، لكن هذه المرة عبر القضاء، بإغلاق الملف وطمس الحقيقة، في مشهد فاضح يختصر حقيقة لبنان: دولة محكومة بعصابة، تديرها ميليشيات وسلطة فاسدة، وتُمسك بمفاصل القضاء والأمن لا لحماية المواطنين، بل لخنقهم وقمعهم.
قرار قاضي التحقيق الأول في بيروت بالإنابة، بلال حلاوي، بحفظ ملف لقمان سليم ليس سوى حلقة جديدة في مسلسل القضاء المسخَّر لحماية القتلة. لم تكن الجريمة يوماً بحاجة إلى دليل إضافي، فالمكان والظروف والتهديدات العلنية التي سبقت الاغتيال تكفي لتوجيه الاتهام إلى من يتحكم بالأرض والسلاح، لكن القضاء، الذي يُفترض أن يكون أداة لملاحقة المجرمين، تحوَّل إلى غطاء لهم، ليصدر حكماً بالإعدام على العدالة، ويعلن بوضوح أن القتلة في لبنان لا يُحاسبون، بل يُكافأون.
هذا القضاء المسيس لم يتردد يوماً في ملاحقة الصحافيين، وناشري الحقائق، ومن يفضحون الفساد، لكنه يعجز فجأة أمام المجرمين الحقيقيين المكشوفين. عندما يتعلق الأمر بكشف حقيقة انفجار مرفأ بيروت، نجد قضاة السلطة يسارعون لتعطيل التحقيق. عندما يُفتح ملف فساد يطاول رموز المنظومة، تتحرك الأجهزة الأمنية لحماية الفاسدين. أما حين يكون الضحية مناضلاً حراً، فإن التحقيقات تُغلق، وتُرمى الأدلة في النفايات، وكأن حياة المواطنين ودماء الأحرار لا قيمة لها أمام نفوذ الميليشيات ورعاتها.
ما حدث في ملف لقمان سليم ليس استثناءً، بل هو القاعدة في بلد تمتلك السلطة فيه منظومة متكاملة لضرب العدالة، القضاء والأجهزة الأمنية، المفترض أن تكون في خدمة الشعب، حُوّلت إلى أذرع لحماية المجرمين وقمع الأصوات الحرة. ليس هناك دولة، بل نظام “مافياوي” تحكمه ميليشيات مسلحة تحرك القضاء والأمن بحسب مصالحها، تستخدم الترهيب والتصفية الجسدية حين يلزم، والتعطيل القانوني عندما يُصبح كشف الحقيقة تهديداً لسطوتها.
حين اغتيل لقمان سليم، كانت الرسالة واضحة: “لا صوت يعلو فوق صوت السلاح”، وعندما أُغلق ملفه، كانت الرسالة أكثر وضوحاً: “القضاء تحت أقدامنا، والعدالة ممنوعة عليكم”.
هذا القضاء نفسه الذي وقف عاجزاً أمام تهديد قضاة التحقيق، حين اقتحم أحد مسؤولي “حزب الله” قصر العدل مهدداً القاضي طارق البيطار بـ”قبع رأسه” إن استمر في تحقيقاته، هذا القضاء الذي لم يجرؤ على استدعاء مشتبه فيهم في تفجير المرفأ، ولم يحرك ساكناً أمام أكبر سرقة مصرفية في التاريخ، سرقة جنى عمر اللبنانيين من المصارف، حيث تبخرت أموالهم ولم يُحاسَب أحد.
لبنان الجديد
لبنان اليوم ليس دولة، بل ساحة مفتوحة للمافيات والمجرمين، حيث يحكم الأقوياء بالسلاح والمال، وتُسحق العدالة تحت أقدام الفاسدين. لن يكون هناك وطن حر ما دام القضاء مكبلاً، والأجهزة الأمنية تُستخدم لحماية العصابات، والمجرمون أحراراً، فيما المناضلون يُغتالون مرتين.
ونحن اليوم على بعد أيام من ذكرى اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، وهي محطة مهمة ومفصلية في تاريخ لبنان، بل لحظة فاصلة غيّرت مسار البلاد وأثّرت في المشهد الإقليمي والسياسي، فعلى رغم توصّل المحكمة الدولية إلى إدانة عناصر من “حزب الله” بارتكاب الجريمة وسمتهم باسمهم الثلاثي مع شرح مفصل عن العملية وأدواتها اللوجستية، خرج الأمين العام السابق للحزب حسن نصرالله متوعداً ومهدداً، متهماً المحكمة بـ”الصهيونية” وأنها تسعى إلى تشويه صورة “المقاومة”، وحينها رضخت السلطة والقضاء وقضي الأمر.
سقوط “حزب الله” يُسقط منظومته الأمنية والقضائية الممسكة بالمؤسسات الرسمية والأمنية والقضائية. لن يكون لبنان المستقبل استمراراً لهذا العفن. العدالة لن تبقى في يد القتلة، ولن يكون القضاء حصناً لهم. التغيير آتٍ، ولو طال الزمن. العدالة لن تُدفن، ودماء لقمان سليم لن تضيع هدراً، كما لن تضيع دماء كل الذين سقطوا دفاعاً عن وطنٍ باتت هويته مختطفة.
لن يُكتب للبنان الجديد أن يولد إلا إذا اقتُلعت جذور هذا النظام الفاسد، وطُهِّر القضاء من مرتزقته، وعاد الأمن لحماية الشعب بدلاً من حماية سطوتهم. هذا هو التحدي الحقيقي، وهذه هي المعركة الفاصلة: إما وطن يسوده العدل، أو عصابة تواصل إجرامها إلى الأبد. واللبنانيون، عاجلاً أم آجلاً، سيفرضون الخيار الأول.