بقلم: كارلو جليان
الصراع اللبناني الإسرائيلي ليس مجرّد مواجهة عسكرية أو سياسية، بل يعكس تناقضاً عميقاً بين قوى متضادة تعبّر عن رؤى فلسفية وتجارب مادية متجذرة. لفهم هذا الصراع، يمكننا الاستعانة بمقاربتين فكريتين: المثالية الهيغلية التي ترى الصراع كتناقض بين قضيتين فكريتين، والمادية الماركسية التي تفسر الصراع كنتاج للتناقضات المادية والطبقية.
المثالية الهيغلية والصراع كتناقض بين الأفكار
وفق هيغل، يمثّل الصراع جدلية بين قضية أساسية ونقيضها، مما يؤدي إلى ولادة مركّب جديد يحمل سمات القضيتين لكنه يشكّل فكرة جديدة.
- القضية الأولى: المقاومة كفكرة تحررية
المقاومة اللبنانية ليست مجرّد حركة عسكرية، بل تجسّد فكرة التحرر الوطني والاستقلال. إنها تمثل رفض الهيمنة الأجنبية والدفاع عن الأرض والهوية ضد المشروع الإسرائيلي، وهي تعبير عن تطلعات الشعوب للتحرر والكرامة.
- القضية النقيضة: المشروع الإسرائيلي كفكرة استعمارية
المشروع الإسرائيلي، في المقابل، يستند إلى رؤية توسعية تتعامل مع الأرض والإنسان كأدوات لتحقيق أهداف اقتصادية وسياسية. إنه يتبنى سردية تاريخية تعتبر الهيمنة على المنطقة أمراً ضرورياً للبقاء.
- المركب الناتج عن الصراع:
هذا التناقض يولّد مركّباً جديداً: حالة من الردع المتبادل. المقاومة تنزع شرعية الهيمنة الإسرائيلية، في حين تعيد إسرائيل صياغة استراتيجياتها لتجنّب انهيار مشروعها، مما يؤدي إلى ديناميكيات جديدة في الصراع دون حسم نهائي.
المادية الماركسية والصراع كنتاج للتناقضات المادية
على الجانب الآخر، تنظر المادية الماركسية إلى الصراع كعملية تاريخية تنبثق عن التناقضات المادية والطبقية داخل كل طرف وفي السياق الأوسع للنظام الرأسمالي العالمي.
- التناقضات الطبقية والبنية الاقتصادية:
- داخل المقاومة:
تعبّر المقاومة عن تحالف الطبقات المهمشة في لبنان، التي تعاني من الإقصاء الاقتصادي والاجتماعي في ظل النظام الطائفي. كما أنها تواجه تحديات داخلية، حيث تسعى للتوفيق بين مشروعها التحرري وواقعها في نظام سياسي يخدم مصالح البرجوازية المحلية.
- داخل الكيان الإسرائيلي:
إسرائيل ليست مجرد قوة استعمارية، بل هي امتداد للنظام الرأسمالي العالمي. لكنها تواجه تناقضات داخلية متزايدة، مثل الفجوة بين النخب الاقتصادية والطبقات المهمشة داخل المجتمع الإسرائيلي، مما يهدد استقرار المشروع الصهيوني.
- التراكم الكمي والتغيير الكيفي:
تؤكّد المادية التاريخية على أن التراكم الكمي في ميزان القوى يؤدي إلى تغيير كيفي:
- المقاومة تطورت من مجموعات صغيرة إلى قوة إقليمية ذات تأثير سياسي وعسكري.
- إسرائيل، رغم تفوقها التكنولوجي، أصبحت عاجزة عن تحقيق نصر حاسم، مما أدى إلى توازن قلق يعيد إنتاج الصراع بشكل جديد.
- في النفي ومرحلة جديدة من الصراع:
وفقًا لقانون نفي النفي، يمرّ الصراع بمراحل تتضمن تجاوزاً للمرحلة السابقة مع الاحتفاظ ببعض عناصرها:
- الاحتلال المباشر: كان يمثل المرحلة الأولى من الصراع، حيث اعتمد الكيان على السيطرة العسكرية المباشرة لتحقيق أهدافه.
- نفي الاحتلال: انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000 نفى الاحتلال المباشر، لكنه لم ينهِ الصراع، بل أدّى إلى ظهور معادلات جديدة مثل توازن الردع.
- نفي النفي: المرحلة الحالية تمثل صيغة مركبة: لا احتلال مباشر، لكن أيضاً لا سلام أو استقرار.
قراءة تكاملية بين المثالية والمادية
بين المثالية والمادية، يمكننا تقديم قراءة شاملة لهذا الصراع:
- تكشف المثالية التناقض الفكري بين مشروع الهيمنة ومشروع التحرر، حيث يصبح الصراع تعبيراً عن تناقض بين رؤى وجودية حول الحرية والسيادة.
- المادية تفكك البنية الاقتصادية والاجتماعية التي تغذي هذا الصراع، حيث يتحول إلى انعكاس للتناقضات الطبقية داخل كل طرف وفي النظام العالمي ككل.
الخلاصة
الصراع اللبناني الإسرائيلي ليس مجرد مواجهة عسكرية، بل هو عملية تاريخية تعكس تناقضات فلسفية ومادية. بين المثالية والمادية، نرى صراعاً يمرّ بتحولات مستمرة، حيث يعاد تشكيله مع كل مرحلة دون الوصول إلى حسم نهائي. إنه صراع يعبّر عن تعقيدات البنى الفكرية والمادية التي تحكم المنطقة، مما يجعله نقطة مفصلية في فهم النظام العالمي وتحولاته.